العربية
100%
معالم المرقد العلوي

مكتبة الروضة الحيدرية

مكتبة الروضة الحيدرية

     تمثل هذه المكتبة الخزانة الغروية القديمة, وهي تُعد أم المكتبات في النجف الأشرف إذ يرجع تاريخها إلى بداية القرن الرابع الهجري بعد نشوء وتنامي المدينة المقدسة وظهور نواة الحركة العلمية فيها.

     وقد تعددت أسماء هذه المكتبة كما هو مُلاحظ من خلال تصفح الكتب التي تم تأليفها في تاريخ النجف الأشرف والمرقد المطهر, قال السيد هاشم الميلاني في كتابه (مكتبة الروضة الحيدرية جهود وجهاد): (فقد سميت باسم: الخزانة الغروية, الخزانة العلوية, خزانة الصحن, خزانة امير المؤمنين عليه السلام, مكتبة الصحن العلوي, المخزن العلوي, المكتبة العلوية, المكتبة الحيدرية, وأخيراً مكتبة الروضة الحيدرية, ولكن أقدم هذه الأسماء وأكثرها شيوعاً وتداولاً هو الخِزانة الغروية)(1).

     وكان يطلق قديماً على المتولي لخِزانة الكتب اسم الخازن أو الكتابدار وهو عادة من العلماء والفقهاء, ومن أشهرهم الشيخ محمد بن شهريار, فقد ورد في سند (الصحيفة السجادية) ما نصه: (قال: أخبرنا الشيخ السعيد أبو عبد الله محمد بن أحمد بن شهريار, الخازن لخِزانة مولانا أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام في شهر ربيع الاول من سنة ست عشرة وخمسمائة قراءةً عليه وأنا أسمع) (2).

     والثابت تاريخياً أن الصحن الحيدري الشريف كان أول مدرسة علمية في النجف القديمة بعد أن أصبحت مقصداً لطلبة العلوم في ذلك العهد, ومن الطبيعي حاجة مدرسة بهذه المنزلة إلى خِزانة كتب لرفد الطلبة بالمصادر, لذا نعتقد أن المؤسس الحقيقي للخِزانة الغروية هم أساتذة العلم الرواد في مدرسة النجف العلمية أو سادنها في ذلك الوقت. ومن الجدير ذكره أن السلطان عضد الدولة فناخسرو البويهي (ت 372هـ) - صاحب العمارة الفخمة للمرقد العلوي المطهر- قد زار النجف عام 371هـ/982م, ومن أعماله المهمة التي أولاها للمرقد المقدس اهتمامه الكبير بالخزانة الغروية لاسيما وإنه كان أديباً عالماً.

     قال كوركيس عواد في (خزائن الكتب القديمة في العراق) ما نصه:(وفي صحن هذا المشهد خزانة كتب أنشئت منذ عهد بعيد. وقد عني بأمر هذه الخزانة وإغنائها بالكتب الخطية الثمينة غير واحد من السلاطين والأمراء والوزراء والعلماء وذوي اليسار, ومن أشهرهم عضد الدولة البويهي المتوفى سنة 372هـ/982م)(3).

     وقد ازدهرت المكتبة بعد منتصف القرن الخامس الهجري بعد هجرة شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي عام 448هـ/1056م من بغداد إلى النجف وتأسيسه لجامعتها الدينية. فوجود الحوزة العلمية في النجف الأشرف وقيام بعض العلماء وطلبة العلم بوقف أعداد كبيرة من الكتب على الخزانة قد أديا إلى نموها بمرور الزمن, فضلاً عن ذلك فقد كان السلاطين والملوك والأمراء والوزراء وغيرهم يهدون للخِزانة أنفس المخطوطات تبركاً بالمرقد المطهر لأمير المؤمنين صلوات الله عليه.

    ومما يجدر ان نذكره في هذا الصدد ما ورد في كتاب (الأحلام) للشيخ علي الشرقي (ت 1384هـ) إذ قال: (لقد مر عليك انَّ الجاليات والرواد الهابطين على المدرسة النجفية من بلاد إيران والهند وأذربيجان وما وراء النهر والقوقاز وعاملة والخليج وبعض نواحي اليمن كانوا يفدون على النجف بثرواتهم المادية والأدبية وأهمها أمهات الكتب المخطوطة من كتب الفلسفة والرياضيات والأدب والفلك والتاريخ والمسالك والممالك, وقد كان رواد العلم وطلابه يسكنون على الأغلب المدرسة العلوية الكبرى "الصحن" ومنهم المقيم في غيرها من المدارس والدور الخاصة, وكان لهم نقيب ينظم شؤونهم, وكانت في المدرسة العلوية خِزانة كتب نفيسة تجمعت مما يحمله المهاجرون, وكانوا بعدما يتزودون بزاد العلم ويعتزمون العودة إلى أوطانهم يتركون ما حملوه من نفائس الكتب وما ألَّفوه من رسائل وأطروحات في خِزانة المدرسة العلوية محبسة على طلابها)(4)

     ومما يؤسف له ما حدث في سنة 755هـ/1354م حين احترق بناء المرقد العلوي المقدس فاحترقت المكتبة أيضاً. فقد ذكر ابن عنبة في (عمدة الطالب في انساب آل ابي طالب) ما نصه:(وقد كان بالمشهد الشريف الغروي مصحف في ثلاثة مجلدات بخط أمير المؤمنين عليه السلام احترق حين احترق المشهد سنة خمس وخمسين وسبعماية)(5).

    وذهب المؤرخون إلى أنَّ السيد صدر الدين الآوي قد قام بجهود كبيرة أسفرت عن إعادة إحياء المكتبة في سنة 760هـ/1359م مستعيناً بالعلامة فخر المحققين الحلي (ت771هـ), إذ رُفدت الخِزانة بآلاف المخطوطات ولاسيما من داخل النجف, وتم شراء الكتب النادرة لها من مدينة بغداد, وعادت أهميتها إلى ما كانت عليه قبل حادثة الحريق, وأطلق عليها اسم الخِزانة العلوية(6).

     وبعد قرنين من إحيائها أصبحت الخِزانة العلوية كنزاً عظيماً لا يقدر بثمن لما احتوته من نوادر المخطوطات, وما يدلل على ذلك ما ذكرته المستشرقة زيغريد هونكه في (شمس العرب تسطع على الغرب) إذ قالت: (فمكتبة صغيرة كمكتبة النجف في العراق كانت تحوي في القرن العاشر أربعين ألف مجلد, بينما لم تحو أديرة الغرب سوى اثني عشر كتاباً رُبطت بالسلاسل خشية ضياعها)(7).

     وقال السيد هاشم الميلاني: (وقد زار هذه المكتبة العديد من العلماء والحكام, وكانت معروفة مشهورة تقصد من اقصاء النقاط, وقد وصفها واستفاد منه الشيخ محمد علي حزين اللاهيجي (ت 1180هـ) عندما جاء الى النجف, ومكث فيها ما يقارب ثلاث سنوات حيث قال: قد اجتمع في مكتبته عليه السلام من كتب الأوائل والأواخر في كل فن ما لا أتمكن من عدّه. وكذلك وصفها عبد اللطيف الشوشتري (ت1220ه) عندما زارها بقوله: إنَّ فيها من نفائس العلوم المختلفة التي لم توجد في خزائن السلاطين)(8).

     وبقيت الخِزانة العلوية تؤدي دورها الثقافي بما تحويه من كتب في مختلف العلوم إلى أواخر القرن الثالث عشر الهجري, وبعدها تعرضت للإهمال وسوء التنظيم ما أدى إلى تلف معظم هذه المخطوطات بفعل التغيرات في العوامل الجوية كدرجة الحرارة والرطوبة فضلاً عن الغبار وعبث حشرة الأرضة. ومن الظلامات الكبيرة التي ارتكبت بحق الخزانة العلوية- كما نُقل عن بعض العلماء الثقات- قيام بعض المسؤولين في زمن النظام البائد برمي أكياس كبيرة مملوءة بأوراق المخطوطات في شط الكوفة, فوصل الحال بهذه المكتبة العريقة بتاريخها إلى حد التلاشي(9).

     وبعد زوال النظام البعثي في عام 1424هـ/2003م وتَسلُّم المرجعية الدينية الرشيدة زمام الإشراف على مراقد أهل البيت الأطهار عليهم السلام, وبسعي من مركز الأبحاث العقائدية متمثلاً بسماحة الشيخ فارس الحسون (ت 1426هـ), تم إعادة تأسيس هذه المكتبة وافتتحت في 20 جمادى الآخرة 1426هـ/2005م تيمناً بذكرى ولادة سيدة النساء فاطمة الزهراء عليها السلام, وسُميت مكتبة الروضة الحيدرية, وتولى أمانتها السيد هاشم الميلاني. وشغلت المكتبة البناء المجاور لجامع عمران بن شاهين ضمن الضلع الشمالي من جدار الصحن الحيدري الشريف, ولها بابان أحدهما في سور الصحن الشريف من الجهة المقابلة لجامع الطوسي والثاني من جهة الصحن.

     وقد أولت الأمانة العامة للعتبة العلوية المقدسة كثيراً من الاهتمام لإعادة تنظيمها ورفدها بالمصادر المطبوعة والمخطوطة في شتى صنوف المعرفة, فأصبحت مقصداً لأهل العلم والمعرفة. وتمتاز هذه المكتبة بنفاسة المصاحف المزخرفة والمذهبة لأشهر الخطاطين كياقوت المستعصمي (ت 689هـ), ويرجع أقدمها إلى القرن الأول الهجري, ويوجد جزء من مصحف مكتوب على الرق بالخط الكوفي منسوب إلى الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام. وفي الوقت الحاضر فإنَّ الخِزانة العلوية تضم المخطوطات بينما مكتبة الروضة الحيدرية تحوي الكتب المطبوعة والحجرية. 

     وبمرور الأيام ازدهرت هذه المكتبة وتعدت كتبها ثلاثمائة ألف كتاب بالإضافة إلى الرسائل والأطاريح الجامعية, وهي في تزايد مستمر ببركة صاحبها أمير المؤمنين عليه السلام. وتم إنشاء موقع إلكتروني على شبكة الإنترنت العالمية ضمَّ المكتبة المختصة بأمير المؤمنين عليه السلام, كما تتّبع المكتبة نظام فهرسة إلكترونياً متطوراً, وتضم وحدة المكتبة الرقمية. وتوفر مكتبة الروضة العديد من الخدمات ومنها خدمة الاستنساخ والأقراص الليزرية للباحثين.

   ونظراً للإقبال الواسع على ارتياد هذه المكتبة من مختلف شرائح المجتمع, دعت الضرورة إلى إعادة تأهيلها وتوسعتها وذلك بزيادة عدد الرفوف المخصصة للكتب وتوسيع قاعة المطالعة, فتم ذلك في عام 1434هـ /2013م, فظهرت بحلّة جديدة وتنظيم رائع نتيجة للجهود المباركة من المعنيين بها.

     خلاصة القول أن مكتبة الروضة الحيدرية هي الآن أقدم وأهم المكتبات العامة الحاضرة في مدينة النجف الأشرف, وهي بحق مؤسسة ثقافية عظيمة مزدهرة تهدف إلى توفير المعرفة للجميع بمختلف العلوم والفنون. وبفضل جهود الخيرين ممن تولوا رعايتها تم إحياؤها من جديد بما يليق باسمها بشكل مثير للدهشة والإعجاب. وستنتقل المكتبة إن شاء الله تعالى إلى بنايتها الفخمة في صحن مولاتنا فاطمة الزهراء عليها السلام ضمن التوسعة الجديدة للروضة الحيدرية المقدسة, ومن المخطط له أن تتسع لمليوني كتاب, كما انَّ طبيعة عمل هذه المكتبة سيكون وفقاً لأرقى المواصفات والمعايير العالمية الخاصة بإدارة المكتبات.