العربية

بعدما أوجزنا  القول عن المؤلِّف، فجدير بنا أن نتناول المؤلَّف بالكلام، وسنوجز القول حوله أيضاً في عدّة نقاط:

1 ـ تدوين خطب أميرالمؤمنين (عليه السلام) قبل نهج البلاغة.

2 ـ من هو جامع نهج البلاغة.

3 ـ الشبهات المثارة.

4 ـ  النسخ المعتمدة.

 

1 ـ تدوين كلام أميرالمؤمنين (عليه السلام) قبل نهج البلاغة:

هناك الكثير ممّن دوّن خطب أميرالمؤمنين (عليه السلام) وكلامه وحفظها قبل الرضي(رحمه الله) وكتابه (نهج البلاغة) ، قال المسعودي: «والّذي حفظ الناس من خطبه من سائر مقاماته أربعمائـة ونيف وثمانون خطبة» ([1])  ، وقـال ابن نباتة (ت 374) :  «حفظت من الخطابة كنزاً لا يـزيده الإنفاق إلّا سعـة وكثرة ، حفظت مائة فصل من مواعظ علي ابن أبي طالب» ([2]).

ولعل أقدم ما وصل في ذلك ممّن اهتمّ بتدوين وكتابة خطب أميرالمؤمنين(عليه السلام)، هو الحارث الـهَمْداني ، كما جاء في الكافي عن أبي إسحاق السبيعي عن الحارث الأعور قال: «خطب أميرالمؤمنين (عليه السلام) خطبة بعد العصر فعجب الناس من حسن صفته، وما ذكره من تعظيم الله جلّ جلاله، قال أبو إسحاق : فقلت للحارث: أوما حفظتها؟ قال: قد كتبتها، فأملاها علينا من كتابه... » ([3]).

وقد جمع السيد عبدالزهراء الحسيني(رحمه الله) في (مصادر نهج البلاغة) (22) شخصاً دوّنوا خطب أميرالمؤمنين (عليه السلام) كلّهم قبل زمن الرضي، أمثال علي بن محمد المدائني،  والواقدي، والمنقري، والسيّد عبدالعظيم الحسني، وغيرهم.

وللأسف أنّ الكثير من هذه الكتب التي استفاد منها الشريف الرضي(رحمه الله) قد احترقت وتلفت فلم تصل إلينا، قال الحموي في (معجم البلدان): «بين السورين ـ تثنية سورالمدينة ـ اسم لمحلّة كبيرة كانت بكرخ بغداد، وكانت من أحسن محالّها وأعمرها، وبها كانت خزانة الكتب التي وقفها الوزير أبو نصر سابور بن أردشير وزير بهاء الدولة بن عضد الدولة، ولم يكن في الدنيا أحسن كتباً منها، كانت كلّها بخطوط الأئمّة المعتبرة وأُصولهم المحرّرة، واحترقت فيما احرق من محالّ الكرخ عند ورود طغرل بك أول ملوك السلجوقية إلى بغداد سنة 447» ([4]).

 

2 ـ نهج البلاغة لمن؟!

والحديث عن هذا الموضوع يبرز في مسألتين، فامّا المسألة الأولى ففي صحة انتساب ما في النهج إلى أميرالمؤمنين(عليه السلام)، وأمّا الثانية ففي جمع الكتاب هل جمعه الرضي أو غيره.

  المسألة الأولى:

ونكتفي هنا بما قاله ابن أبي الحديد في شرحه فقد أفاد وأجاد، إذ قال بعد ذكر خطبة ابن أبي الشخباء([5]): «هذه أحسن خطبة خطبها هذا الكاتب، وهي كما تراها ظاهرة التكلّف بيّنة التوليد، تخطب على نفسها، وإنّما ذكرت هذا لأنّ كثيراً من أرباب الهوى يقولون: انّ كثيراً من نهج البلاغة كلام محدث صنعه قوم من فصحاء الشيعة، وربما عزوا بعضه إلى الرضي أبي الحسن وغيره، وهؤلاء قوم أعمت العصبية أعينهم، فضلّوا عن النهج الواضح وركبوا بُنيّات([6]) الطريق ضلالاً، وقلّة معرفة بأساليب الكلام، وأنا اُوضح لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الخلط،  فأقول: لا يخلو إمّا أن يكون كل نهج البلاغة مصنوعاً منحولاً أو بعضه.

والأول باطل بالضرورة؛ لأنّا نعلم بالتواتر صحّة إسناد بعضه إلى أميرالمؤمنين(عليه السلام)، وقد نقل المحدّثون كلّهم أو جلّهم والمؤرّخون كثيراً منه، وليسوا من الشيعة لينسبوا إلى غرضٍ في ذلك.

والثاني يدلّ على ما قلناه؛ لأنّ من قد أنس بالكلام والخطابة، وشدا طرفاً من علم البيان، وصار له ذوق في هذا الباب لابدّ من أن يفرّق بين الكلام الركيك والفصيح، وبين الفصيح والأفصح، وبين الأصيل والمولّد، وإذا وقف على كرّاسٍ واحدٍ يتضمّن كلاماً لجماعة من الخطباء أو لاثنين منهم فقط فلابدّ من أن يفرّق بين الكلامين، ويميّز بين الطريقتين، ألا ترى أنّا مع معرفتنا بالشعر ونقده لو تصفّحنا ديوان أبي تمام، فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره، لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمام ونَفَسه وطريقته ومذهبه في القريض، ألا ترى أنّ العلماء بهذا الشأن حذفوا من شعره قصائد كثيرة منحولة إليه لمباينتها لمذهبه في الشعر، وكذلك حذفوا من شعر أبي نواس شيئاً كثيراً لما ظهر لهم أنّه ليس من ألفاظه ولا من شعره، وكذلك غيرهما من الشعراء، ولم يعتمدوا في ذلك إلّا على الذوق خاصّة.

وأنت إذا تأمّلت نهج البلاغة وجدته كلّه ماءً واحداً، ونَفَساً واحداً، وأسلوباً واحداً، كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهيّة، وكالقرآن العزيز أوّله كأوسطه وأوسطه كآخره، وكلُّ سورة منه وكلّ آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفنّ والطريق والنظم لباقي الآيات والسور، ولو كان بعض نهج البلاغة منحولاً وبعضه صحيحاً لم يكن ذلك كذلك، فقد ظهر لك بهذا البرهان الواضح ضلال من زعم أنّ هذا الكتاب أو بعضه منحول إلى أميرالمؤمنين (عليه السلام).

واعلم أنّ قائل هذا القول يطرق على نفسه ما لا قِبَل له به، لأنّا متى فتحنا هذا الباب وسلّطنا الشكوك على أنفسنا في هذا النحو، لم نثق بصحّة كلام منقول عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلّم) أبداً، وساغ لطاعن أن يطعن ويقول: هذا الخبر منحول، وهذا الكلام مصنوع، وكذلك ما نُقل عن أبي بكر وعمر من الكلام والخطب والمواعظ والأدب وغير ذلك، وكلّ أمر جعله هذا الطاعن مستنداً له فيما  يرويه عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلّم) والأئمّة الراشدين والصحابة والتابعين والشعراء والمترسّلين والخطباء، فلناصري أميرالمؤمنين(عليه السلام) أن يستندوا إلى مثله فيما يروونه عنه من نهج البلاغة وغيره، وهذا واضحٌ».

وقال في آخر الخطبة الشقشقية([7]): «حدّثني شيخي أبو الخير مصدّق بن شبيب الواسطي في سنة ثلاث وستمائة، قال: قرأت على الشيخ أبي محمد عبدالله بن أحمد المعروف بابن الخشّاب المتوفّى (568هـ) هذه الخطبة ـ يعني الشقشقية ـ فلمّا  انتهيت إلى هذا الموضع ـ يعني قول ابن عباس: فوالله ما أسفت... الخ ـ قال لي: لو سمعت ابن عبّاس يقول هذا لقلت له: وهل بقي في نفس ابن عمّك أمر لم يبلغه في هذه الخطبة لتتأسّف أن لا يكون بلغ من كلامه ما أراد؟! والله ما رجع عن الأوّلين ولا عن الآخرين، ولا بقي في نفسه أحدٌ لم يذكره إلّا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلّم).

قال مصدّق: وكان ابن الخشّاب صاحب دعابة وهزل، قال: فقلت له: أتقول إنّها منحولة؟! فقال : لا والله وإنّي لأعلم أنّها كلامه كما أعلم أنّك مصدّق. قال: فقلت له: إنّ كثيراً من الناس يقولون: إنّها من كلام الرضي (رحمه الله). فقال: أنّى للرضي ولغير الرضي هذا النَّفسُ وهذا الأسلوب؟! قد وقفنا على رسائل الرضي وعرفنا طريقته وفنّه في الكلام المنثور، وما يقع من هذا الكلام في خلّ ولا خمر.

ثم قال: والله لقد وقفت على هذه الخُطْبة في كتب صُنّفت قبل أن يُخلقَ الرضيُّ بمائتي سنة، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها وأعرف خطوط من هو من العلماء وأهل الأدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي.

قلت: وقد وجدت أنا كثيراً من هذه  الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي إمام البغداديين من المعتزلة، وكان في دولة المقتدر قبل أن يُخلق الرضي بمدّة طويلة، ووجدت أيضاً كثيراً منها في كتاب أبي جعفر بن قبة أحد متكلّمي الإمامية، وهو الكتاب المشهور المعروف بكتاب الانصاف، وكان أبو جعفر هذا من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي، ومات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضي موجوداً » .

  المسألة الثانية:

أمّا المسألة الثانية فهي أَنَّ الشريف الرضي هو الذي جمع (نهج البلاغة) من مطاوي الكتب التي كانت آنذاك، وكان جمعه في غاية الدقة والأمانة مع الحفاظ على أصل الكلام، ولم يتصرّف فيه إلّا بالإختصار وانتخاب الكلام البليغ كما أشار إليه في مقدّمة (النهج) من أَنَّه يورد النكت واللمع ولا يقصد التتالي والنسق، ومع هذا كرّر بعض الخطب والحِكَم لورودها بأنحاء مختلفة، وهذا ممّا يدلّ على ضبطه وحرصه على نقل الكلام بصورته.

ويشهد لكون الشريف الرضي(رحمه الله) هو جامع نهج البلاغة مايلي:

1 ـ إحالات الشريف الرضي إلى (نهج البلاغة) في سائر كتبه، من قبيل (المجازات النبوية)، و(حقائق التأويل)، وكذلك إحالته في (نهج البلاغة) إلى كتاب (خصائص الأئمّة) و(المجازات النبوية).

قال(رحمه الله) في (حقائق التأويل):  «ومن أراد أن يعلم برهان ما أشرنا إليه من ذلك، فلينعم النظر في كتابنا الذي ألّفناه ووسمناه (بنهج البلاغة)، وجعلناه يشتمل على مختار جميع الواقع إلينا من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في جميع الأنحاء والأغراض والأجناس والأنواع من خطب وكتب ومواعظ وحكم، وبوبناه أبواباً ثلاثة، ليشتمل على هذه الأقسام مميّزة مفصّلة، وقد عظم الإنتفاع به وكثر الطالبون له، لعظيم قدر ما ضمنه من عجائب الفصاحة وبدائعها، وشرائف الكلم ونفائسها... » ([8]).

2 ـ نسبة الجمع إلى الرضي في كتب التراجم، أمثال (رجال النجاشي)، و(معالم العلماء) لابن شهرآشوب، و(خلاصة الأقوال) للعلّامة الحلي وغيرها.

3 ـ سلاسل الإجازات الموصولة إلى الشريف الرضي بطرق كثيرة، وقد ذكرها العلّامة السيّد محمد حسين الجلالي في مقدّمة كتاب «إرشاد المؤمنين إلى معرفة نهج البلاغة المبين».

4 ـ الاهتمام البالغ من الكتّاب والمؤلّفين بشرح (النهج) والتعليق عليه أو النقل عنه عبر القرون من دون غمز في جامعه.

ومن قرأ مقدمة كتاب (بديع القرآن) لابن أبي الاصبع المصري (585 ـ 654هـ) يجد المؤلف قد عدّ نهج البلاغة من جملة مصادر كتابه، فقد قال في صفحة(4): جمعته من كتاب وكتابين، منها ما هو منفرد بهذا العلم، ومنها ما هو داخل فيه أثنائه ـ ثمّ ذكر عدة كتب إلى أن قال في صفحة (7) ـ: ونهج البلاغة للإمام علي(عليه السلام).

وعليه فلا قيمة لما ذكره ابن خلكان من قوله: «اختلف الناس فيه، هل أنَّ الشريف أبا القاسم علي بن الحسين الطاهر المرتضى المتوفى سنة 436 جمعه من كلام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، أو جمعه أخوه الشريف الرضي البغدادي، وقد قيل: إنّه ليس من كلام علي، وإنّما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه» ([9]).

 

3 ـ الشبهات المثارة:

لقد أُثيرت حول كتاب نهج البلاغة شبهات كثيرة، تهدف إلى التشكيك في صحة نسبته، وقد أجاب عنها علماؤنا الأعلام بأجوبة كافية شافية، ونحن نورد هنا أهمّها مع الإجابة عنها.

أ ـ الشبهة السندية:

قال الذهبي في ترجمة الرضي: «هو جامع نهج  البلاغة المنسوب ألفاظه إلى الإمام علي، ولا أسانيد لذلك... » ([10]).

وقد غلا علي السالوس في كتابه «مع الشيعة الاثني عشرية» ([11]) ، وكذلك الزعبي في كتابه «البينات في الرد على أباطيل المراجعات» ([12]) حيث قال: إنّ النهج حتى لو كان مسنداً فلا عبرة به لأنّه رواه الرضي، وهو شيعي جلد لا يحتج بروايته.

ونقول: انّ الشريف الرضي(رحمه الله) لم يكن بصدد تأليف كتاب روائي أو فقهي استدلالي ليهتم بالأسانيد، بل كان غرضه إيراد «النكت واللمع» البلاغية من كلام أميرالمؤمنين (عليه السلام)، ولذا سمّاه (نهج البلاغة). وكان «دأبه فيه أن يروي ما كان مقبول الطرفين»([13]).

ولا أحد يستطيع ممّن ترجم للرضي أن يقدح بسيرته إطلاقاً، وهو عَلَمٌ من أعلام طائفةٍ يرون أنّ الكذب على الله وعلى رسوله، أعظم جرماً وأكبر إثماً من شارب الخمر الذي عندهم كعابد وثن.

ومن شدّة حرصه كان ربما كرّر الخطبة والكلام بألفاظ مختلفة كما وجده في المصادر، كما قال في المقدمة: «فربما اتفق الكلام المختار في رواية فنقل على وجهه، ثم وجد بعد ذلك في رواية أخرى موضوعاً غير موضعه الأول اما بزيادة مختارة، أو لفظ أحسن عبارة، فتقتضي الحال أن يعاد استظهاراً للإختيار، وغيرة على عقائل الكلام».

ومع هذا فنحن لاندّعي في(نهج البلاغة) كما ادّعى آخرون بالنسبة إلى الصحيحين بل وبقية صحاحهم وأَنَّ كل ما جاء فيها فهو صحيح مقطوع بصحته ومقولة: أصحّ كتاب بعد كتاب الله في البخاري، أشهر من أن تُذكَر، بل نحن نقول: «الخُطَبُ والكَلِمُ المرويات في نهج البلاغة حالها كحال الخطب المروية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) التي بعضها متواتر قطعي الصدور، وبعضها غير متواتر فهو ظنّي السند لا نحكم عليه بالانتحال والافتعال إلّا بعد قيام الدليل» ([14]).

ولو سلمت المصادر الأولية التي نقل عنها الرضي(رحمه الله) من عَوادِي الزمان وأبنائه، لوقفنا على تلك الأسانيد، ولكن في الباقي كفاية أيضاً حيث وردت كثير من هذه النصوص ـ ولو بألفاظ مختلفة ـ في مطاوي الكتب المتقدّمة والمتأخرة عن الرضي(رحمه الله).

ونحن حاولنا في عملنا هذا الإشارة إلى ماعثرنا عليه من مصادر وأسانيد هذه النصوص بحسب المستطاع، ولا ندعي الكمال والإحاطة التامة، فإنّ ما فاتنا ربما يكون أكثر.

ب ـ ذم الصحابة:

قال الذهبي: «ففيه السب الصراح والحط على السيدين ... » ([15]).

نقول: انّ مبحث عدالة جميع الصحابة مبحث ساخن ليس بين الشيعة والسنّة فقط بل وحتى بين أهل السنة([16])، ومن يرى منهم عدالة جميعهم وعدم جواز التكلّم عمّا جرى بينهم وما دوّن في الكتب نغضّ الطرف عنه، بينما ترى الشيعة عدم المانع من الخوض في ذلك.

وهم بهذا وافقوا القرآن والسنّة وسيرة الصحابة أنفسهم.

فأمّا القرآن فما ورد في ذم المتخلّفين عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلّم) أو المؤذين له وما شاكل، وخطابات القرآن ـ مدحاً وذماً ـ كانت متوجهة لمجتمع الصحابة، ويكفي سورة براءة التي تسمّى بالفاضحة، وسورة الحجرات وسورة (المنافقون) وغيرها، ومن الآيات قوله تعالى: )وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمُزُكَ في الصَّدَقَاتِ(، ومنهم من قال: (هُوَ أُذُن)، ومنهم من اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين، ومنهم من كان في قلبه مرض، ومنهم المعوّقون، ومنهم ومنهم... إذن فحال الصحابة حال غيرهم من الناس في الصلاح والفساد.

وأمّا السنّة فيكفينا حديث الحوض الوارد في (الصحاح) والدالُّ بصريحه على ارتداد بعض الصحابة القهقرى([17])، وأمّا سيرة الصحابة أنفسهم، فإنّنا نرى أنَّ بعضهم ينتقد البعض الآخر بل وحتى يلعنه، وكان الملاك هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن حاد عن المعروف كان يتعرّض للنقد واللعن والقتل من قبل الصحابة أنفسهم.

ومن تصفّح تاريخ الصدر الأول بدقّة، والعلاقات القائمة بين الصحابة أنفسهم نفياً وإيجاباً لم يستغرب ولم يناقش ما ورد في الخطبة الشقشقية، فالتاريخ والصحاح والمسانيد تحدّثنا بما جرى بين عثمان وعمّار وابن مسعود وأبي ذر، وما جرى بين عمر وبين سعد بن عبادة في السقيفة، وكذلك موقفه من خالد بن الوليد في أمر مالك بن نويرة، وموقفه مع أبي هريرة، وما وصف به العشرة المبشّرة بالجنة قبيل وفاته، وغيرها من الأمور، فمن شاهد هذا كلّه علم انّ دأب الصحابة كان قائماً على النقد والتقييم الذاتي والمستمر بغية الإصلاح، فلا يصحّ نفي أيّ نصٍّ لمجرّد وجود هكذا أُمور فيه، نعم إلّا إذا اقترن بأُمور أُخر توجب نفيه والتوقّف فيه.

وبعد هذا فنحن لا نعتقد في أميرالمؤمنين (عليه السلام) أَنَّه كان سبّاباً، كيف وهو الذي منع أصحابه من سبّ معاوية وأصحابه، وأمرهم بذكر معايبهم وزلّاتهم كي لا يفتتن بهم أحد، وهذا هو الذي التزم به (عليه السلام) ونراه أيضاً في (نهج البلاغة)، إذ كان (عليه السلام) يعتقد أنّ  كَشْف ما جرى من خطوب في تلك البرهة للأجيال القادمة وظيفة دينية لم يجز التخلّي عنها، وإن كان فيه مساس أو حطٌّ من مقام معين، فالحقّ أحقُّ أن يُتبّع.

ج ـ التناقض:

قال الذهبي: «وفيه من التناقض... » ([18]).

مع انّا نقول: لا يمكن تفسير النص أو الحدث بمعزل عن الملابسات التي كانت تحيط به، لا سيّما وقد ابتعدت الحادثة عنّا قروناً متطاولة، وإلّا وقعنا في خبط وتشويش في فهم النصوص والحوادث الواقعة.

وهذا ما حدث بالفعل لمناوئي الإسلام حيث رموا القرآن أو سيرة النبي(صلى الله عليه وآله وسلّم) ـ والعياذ بالله ـ بالتناقض، إذ فسّروا النص بمَعْزِلٍ عن مُلابسات الحدث واللغة، وما كان يحيط به من استحقاقات سياسية أو إجتماعية أو عرفية، وذلك كما يقال بالنسبة إلى تعامل النبي(عليه السلام) مع المؤلّفة قلوبهم حيث كان يهب لهم أحياناً أكثر ممّا يهب لأصحابه الخلّص من العطاء، أو نظير تعامله مع المنافقين حيث صلّى على رأس المنافقين أُبيّ لمّا مات رعاية لمصالح عامة، مع ذمه للمنافقين وتحذيره منهم.

وهذا ما تغابى عنه الذهبي وأضراب الذهبي، فرموا نهج البلاغة وكلام أميرالمؤمنين (عليه السلام) بالتناقض، ولم يفطنوا إلى أنَّ كلام أميرالمؤمنين (عليه السلام)  ـ بعدما ثبتت نسبته إليه ـ لا يحمل على التناقض وإن كان ظاهره ذلك، بل لابدّ من تفسيره مع لحاظ الملابسات والظروف التي كان يعيشها الإمام (عليه السلام) آنذاك، لأنّه (عليه السلام) كان يرى تقديم الأهم على المهم ورعاية مصالح المسلمين وحفظ بيضة الإسلام، ثمّ انّه في كلامه الذي يتداوله (عليه السلام) مع خواصه وبمنأى عن الرأي العام، والكلام الذي كان بمرأى ومسمع الناس، قد يوجد بعض التفاوت في فهم هذين الخطابين، وقد كان له ـ كما لغيره من أئمة البيان ـ في المعاريض مندوحة، وعليه فلا تناقض إذ لكلّ مقام مقال.

د ـ استعمال السجع:

أشار ابن أبي الحديد إلى هذه الشبهة وقال: «واعلم أنَّ قوماً من أرباب علم البيان عابوا السجع، وأدخلوا خطب أميرالمؤمنين (عليه السلام) في جملة ما عابوه، لأنّه يقصد فيها السجع ، وقالوا: إنَّ الخطب الخالية من السجع والقرائن والفواصل، هي خطب العرب وهي المستحسنة الخالية من التكلّف، كخطبة النبي(صلى الله عليه وآله وسلّم) في حجة الوداع.

ثم أجاب عنها قائلاً:  واعلم أنَّ السجع لو كان عيباً لكان كلام الله سبحانه معيباً، لأنّه مسجوع كلّه ذو فواصل وقرائن، ويكفي هذا القدر وحده مبطلاً لمذهب هؤلاء. فأمّا خطبة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلّم) هذه [إشارة إلى خطبة ذكرها] فإنّها وإن لم تكن ذات سجع ، فإنّ أكثر خطبه مسجوع، كقوله: إنّ مع العزّ ذُلاً، وإنّ مع الحياة موتاً، وإنّ مع الدنيا آخرة، وإنّ لكلّ شيء حساباً، ولكلّ حسنة ثواباً، ولكلّ سيئة عقاباً، وإنّ على كل شيء رقيباً، وأنّه لابدّ لك من قرين يُدفن معك هو حي وأنت ميت، فإن كان كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً أسلمك، ثم لا يحشر إلّا معك، ولا تبعث إلّا معه، ولا تُسأل إلّا عنه، فلا تجعله إلّا صالحاً، فإنّه إن صلح أنست به، وإن فسد لم تستوحش إلّا منه، وهو عملك.

فأكثر هذا الكلام مسجوع كما تراه، وكذلك خطبه الطوال كلّها، وأمّا  كلامه القصير، فإنّه غير مسجوع، لأنّه لا يحتمل السجع، وكذلك القصير من كلام أميرالمؤمنين (عليه السلام).

فأمّا قولهم: إنّ السجع يدلّ على التكلّف، فإنّ المذموم هو التكلّف الذي تظهر سماجته وثقله للسامعين، فأمّا التكلّف المستحسن، فأيّ عيب فيه! ألا ترى أنّ الشعر نفسه لابدّ فيه من تكلّف إقامة الوزن، وليس لطاعن أن يطعن فيه بذلك.

واحتج عائبو السجع بقوله (عليه السلام)  لبعضهم منكراً عليه:  «أسجعاً كسجع الكهان!». ولولا أنّ السجع منكر لما أنكر (عليه السلام) سجع الكُهّان وأمثاله، فيقال لهم: إنّما أنكر (عليه السلام) السجع الذي يسجع الكهّان أمثاله، لا السجع على الإطلاق، وصورة الواقعة أنّه (عليه السلام) أمر في الجنين بغرّة، فقال قائل: أَأَدِي من لا شَرِب ولا أكل، ولا نطق ولا استهلّ، ومثل هذا يُطَلُّ! فأنكر (عليه السلام) ذلك، لأنّ الكهان كانوا يحكمون في الجاهلية بألفاظ مسجوعة كقولهم: حبة بُرّ، في إحليل مُهْر، وقولهم: عبد المسيح، على جمل مُشِيح، لرؤيا الموبذان، وارتجاس الإيوان، ونحو ذلك من كلامهم، وكان (عليه السلام) قد أبطل الكهانة والتنجيم والسحر، ونهى عنها، فلما سمع كلام ذلك القائل أعاد الإنكار، ومراده به تأكيد تحريم العمل على أقوال الكهنة. ولو كان (عليه السلام) قد أنكر السجع لما قاله، وقد بيّنا أنّ كثيراً من كلامه مسجوع، وذكرنا خطبته» ([19]).

ثم أورد نماذج من السجع الوارد في كلام النبي(صلى الله عليه وآله وسلّم).

هـ ـ المشتركات في نهج البلاغة:

وهي أَنَّ هناك بعض النصوص الواردة في (نهج البلاغة) مروية عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلّم) أو غيره من الصحابة والتابعين.

ونقول: «إنَّ رواية بضعة فقرات من (نهج البلاغة) منسوبة لغير علي في بعض المراجع والكتب التراثية، أمر لا يدلّ على نفي نسبة أو تلفيق سند، كيف وقد حدث مثلها في بعض ما نسب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وإلى عدد من الصحابة من جمل وفقرات، كما حدث مثلها في عدد كبير من الشعر العربي القديم.

وليس معنى نسبة فقرة نبوية إلى غير النبي في كتاب ما، أو نسبة بيت من الشعر إلى شاعر ما وغيره، انّ الحديث النبوي أصبح محلّ شك أو إشكال، أو انّ ديوان الشاعر الفلاني قد أصبح مرفوض النسبة والسند.

هذا كلّه بالإضافة إلى تلك الحملة الشعواء التي شنّها الحكم الأموي، وعدد من الحكّام العباسيين على شخص علي بفضائله ومناقبه وأحاديثه وتاريخه، ممّا حدا بالكثير إلى كتمان ما يعلمه أولئك عن علي، وإلى الاستشهاد بكلامه من دون تصريح باسمه في معظم الأحيان»([20]).

 وفي إخفاء الشعبي اسم الإمام في نقل حكم شرعي ولم يخبر به إلا بعد أخذ المواثيق وكـذلك الحـسن البصري وقـد سئل عـن أحاديثه يرفعها عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم)، ولم يدركه فقال للسائل: (يابن أخي لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك ولولا منزلتك مني ما أخبرتك، إني في زمان كما ترى ـ وكان في عمل الحجاج ـ كل شيء سمعتني أقول: قال رسول الله، فهو عن علي بن أبي طالب، غير اني في زمان لا أستطيع أن أذكر علياً»([21]).

و ـ العلم بالغيب:

قيل ورد في بعض خطب (نهج البلاغة) الانباء بالغيب، وهذا ممّا يخصُّ الله بعلمه وحده.

قلنا: إنّ علم الغيب بصورة عامة خاص بالله تعالى، كما هو الحال في الخلق والرزق وما شاكل ذلك، ولكن هذا لا ينافي أن يُطْلِعَ اللهُ تعالى أنبياءه، ومن شاء من عباده على شيءٍ من غيبه المكنون، يدلّ عليه قوله تعالى: >عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً<([22]) وقوله تعالى:  >وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلّا بِما شاءَ<([23]).

كما هو الحال بالنسبة إلى الخلق، فالله تعالى هو الخالق الواحد، ولكن هذا لاينافي إقداره للغير على الخلق بإذنه، كما ورد عن لسان عيسى (عليه السلام): >أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ<([24]).

فلا ضير أن يخبر الله تعالى النبي(صلى الله عليه وآله وسلّم) ببعض الغيب،  ويخبر الرسول وصيّه بشيء منه أيضاً، كما صرّح علي (عليه السلام) بذلك لمّا سُئل: أُعطيت يا أميرالمؤمنين علم الغيب؟ فأجاب (عليه السلام): ليس هو بعلم غيب وإنّما تَعلُّمٌ مِنْ ذِيْ عِلْمٍ.

هذه هي أهم الشبهات المثارة حول نهج البلاغة، تركنا بعضها وأجبنا عن البعض الآخر في مطاوي الكتاب.

 

4 ـ النسخ المعتمدة:

اعتمدنا في التحقيق على أربع نسخ قديمة نورد مواصفاتها فيما يلي:

1 ـ نسخة طبعتها مكتبة آية الله العظمى السيد المرعشي النجفي(رحمه الله) في قم بتاريخ 1406 هـ مصوّرة، عن نسخة ثمينة قديمة كتبها الحسين بن الحسن بن الحسين المؤدب، وأتمّ الكتابة في شهر ذي القعدة سنة (499هـ) أو (469هـ) لعدم وضوح الخط.

والنسخة موجودة في مكتبة السيد المرعشي(رحمه الله) برقم (3827) وهي بخط نسخ واضح ومعرب، وفي هوامشها قيود مختصرة أكثرها لغوية، وعلى الورقة الأُولى تملكات وأختام يعود أكثرها إلى القرن الحادي عشر.

2ـ نسخة قديمة من مصوّرات مركز إحياء التراث الإسلامي في قم وبرقم(2)، والأصل في مكتبة مدرسة نواب بمشهد المقدسة. وهي بخط نسخ معرب كتبها محمد بن محمد بن أحمد النقيب في شهر صفر عام (544هـ) في قصبة السانزولة، وفي الهامش تصحيحات.

3 ـ نسخة أُخرى من مصوّرات مركز إحياء التراث الإسلامي في قم وبرقم 1063، وأصل المخطوطة في المكتبة الوطنية (ملك) بطِهْران. هذه النسخة بخط سليمان بن محمود بن محمد بن قرابكي (قرابك) البدري، بتاريخ 11 شوال عام (566هـ) وعليها بلاغات ومقابلة عبد الصمد  الجبعي.

4 ـ أمّا النسخة الرابعة وهي من مخطوطات مركز إحياء التراث الإسلامي في قم وبرقم 508.

والنسخة بخط نسخ معرب من أوائل القرن السادس، وعليها تصحيحات وحواشي بخطوط مختلفة.

أمّا منهجنا في العمل لهذه الطبعة فهو: الشرح والتوضيح لبعض الكلمات المبهمة، ذكر مصادر الخطب والكتب وقصار الحكم بحسب التسلسل الزمني، زائداً معالجة بعض الشبهات التي ربّما تثار حول بعض النصوص الواردة، وحذفنا في هذه الطبعة ذكر اختلاف النسخ وبعض التعليقات التي ذكرناها في الطبعات السابقة، روماً للاختصار.

وختاماً لا يفوتني أن أتقدّم بالشكر الجزيل لكلّ من ساعدني في إنجاز هذا العمل من مراجعة وتصحيح وإضافة تعليق، فللّه درّهم وعلى الله أجرهم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..