العربية
100%

[3] ومن كتاب كتبه  (عليه السلام) لشريح بن الحارث قاضيه([1])

روي أنّ شريح بن الحارث قاضي أميرالمؤمنين (عليه السلام) اشترى على عهده داراً بثمانين ديناراً، فبلغه (عليه السلام) ذلك، فاستدعى شريحاً، وقال له:

بَلَغَنِي أَنَّكَ ابْتَعْتَ دَاراً بِثَمانِينَ دِينَاراً، وَكَتَبْتَ لَـهَا كِتَاباً، وَأَشْهَدْتَ فِيهِ شُهُوداً.

فقال شريح: قد كان ذلك يا أميرالمؤمنين. قال: فنظر إليه (عليه السلام) نظر مغضب ثمّ قال له:

يَا شُرَيْحُ، أَمَا إِنَّهُ سَيَأْتِيكَ مَنْ لا يَنْظُرُ فِي كِتَابِكَ، وَلا يَسْأَلُكَ عَنْ بَيِّنَتِكَ، حَتَّى يُخْرِجَكَ مِنْهَا شَاخِصاً([2])، وَيُسْلِمَكَ إلَى قَبْرِكَ خَالِصاً. فَانْظُرْ يَا شُرَيْحُ لا تَكُونُ ابْتَعْتَ هذِهِ الدَّارَ مِنْ غَيْرِ مَالِكَ، أَوْ نَقَدْتَ الثَّمَنَ مِنْ غَيْرِ حَلاَلِكَ، فَإِذَا أَنْتَ قدْ خَسِرْتَ دَارَ الدُّنْيَا وَدَارَ الآخِرَةِ. أَمَا إِنَّكَ لَوْ كُنْتَ أَتَيْتَنِي عِنْدَ شِرَائِكَ مَا اشْترَيْتَ لَكَتَبْتُ لَكَ كِتاباً عَلَى هذِهِ النُّسْخَةِ، فَلَمْ تَرْغَبْ فِي شِرَاءِ هذِهِ الدَّارِ بِدِرْهَمٍ فَمَا فَوْقُهُ.

والنسخة هذه:

هذَا مَا اشْتَرَى عَبْدٌ ذَلِيلٌ، مِنْ مَيِّتٍ قَدْ أُزْعِجَ لِلرَّحِيلِ، اشْترَى مِنْهُ دَاراً مِنْ دَارِ الْغُرُورِ، مِنْ جَانِبِ الْفَانِينَ، وَخِطَّةِ([3]) الْـهَالِكِينَ، وَتَجْمَعُ هذِهِ الدَّارَ حُدُودٌ أَرْبَعَةٌ: الْـحَدُّ الأَوَّلُ يَنْتَهِي إِلَى دَوَاعِي الآفَاتِ، وَالْـحَدُّ الثَّانِي يَنْتَهِي إِلَى دَوَاعِي الْـمُصِيبَاتِ، وَالْـحَدُّ الثَّالِثُ يَنْتَهِي إلَى الْـهَوَى الْـمُرْدِي، وَالْـحَدُّ الرَّابِعُ يَنْتَهِي إِلَى الشَّيْطَانِ الْـمُغْوِي، وَفِيهِ يُشْرَعُ([4]) بَابُ هذِهِ الدَّارِ.

اشْترَى هذَا الْـمُغْتَرُّ بِالأَمَلِ، مِنْ هذَا الْـمُزْعَجِ بِالأَجَلِ، هذِهِ الدَّارَ بِالْـخُرُوجِ مِنْ عِزِّ الْقَنَاعَةِ، وَالدُّخُولِ فِي ذُلِّ الطَّلَبِ وَالضَّرَاعَةِ([5])، فَمَا أَدْرَكَ هذَا الْـمُشْتَرِي فِيَما اشْترَى مِنْ دَرَكٍ([6])، فَعَلَى مُبَلْبِلِ أَجْسَامِ الْـمُلُوكِ، وسَالِبِ نُفُوسِ الْـجَبَابِرَةِ، وَمُزِيلِ مُلْكِ الْفَرَاعِنَةِ ـ مِثْلِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَتُبَّعٍ وَحِمْيَرَ، وَمَنْ جَمَعَ الْـمَالَ عَلَى الْـمَالِ فَأَكْثَرَ، وَمَنْ بَنَى وَشَيَّدَ، وَزَخْرَفَ وَنَجَّدَ([7])، وَادَّخَرَ واعْتَقَدَ([8])، وَنَظَرَ بِزَعْمِهِ لِلْوَلَدِ ـ إِشْخَاصُهُمْ جَمِيعاً إِلَى مَوْقِفِ الْعَرْضِ وَالْـحِسَابِ، وَمَوْضِعِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، إذَا وَقَعَ الأَمْرُ بِفَصْلِ الْقَضَاءِ، وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْـمُبْطِلُونَ. شَهِدَ عَلَى ذلِكَ الْعَقْلُ إِذَا خَرَجَ مِنْ أَسْرِ الْـهَوَى، وَسَلِمَ مِنْ عَلاَئِقِ الدُّنْيَا.

 


[1] ـ روى نحوه الصدوق (ت 381) في الأمالي: 388 ح 10 وقال: حدّثنا صالح بن عيسى بن أحمد بن محمّد العجلي، قال: حدّثنا محمّد بن محمّد بن عليّ، قال: حدّثنا محمّد بن الفرج الروياني، قال: حدّثنا عبدالله ابن محمّد العجلي، قال: حدّثني عبد العظيم بن عبدالله الحسني، عن أبيه، عن أبان مولى زيد بن عليّ، عن عاصم بن بهدلة قال: قال لي شريح القاضي... .

[2] ـ شاخصاً: ذاهباً مبعداً.

[3] ـ الخِطة ـ بالكسر ـ : الموضع يُعلمه الشخص ثم يعمره، والمراد به هنا المنزل.

[4] ـ يُشرع: يُفتح.

[5] ـ الضراعة: الذل.

[6] ـ الدرك ـ بالتحريك ـ : التبعة.

[7] ـ نجّد: زيّن.

[8] ـ اعتقد: أي جمع.