العربية
100%

 [28] ومن كتاب له  (عليه السلام) إلى معاوية جواباً

وهو من محاسن الكتب([1])

أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ أَتَانِي كِتَابُكَ تَذْكُرُ [فِيهِ] اصْطِفَاءَ اللهِ تَعَالى مُحَمَّداً (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) لِدِينِهِ، وَتَأْيِيدَهُ إِيَّاهُ بِمَنْ أَيَّدَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَقَدْ خَبَّأَ لَنَا الدَّهْرُ مِنْكَ عَجَباً([2])، إِذْ طَفِقْتَ تُخْبِرُنَا بِبَلَاءِ اللهِ([3]) عِنْدَنَا، وَنِعْمَتِهِ عَلَيْنَا فِي نَبِيِّنَا، فَكُنْتَ فِي ذلكِ كَنَاقِلِ التَّمْرِ إِلَى هَجَرَ([4])، أَوْ دَاعِي مُسَدِّدِهِ إِلَى النِّضَالِ([5]).

وَزَعَمْتَ أَنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ فِي الإِسْلاَمِ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، فَذَكَرْتَ أَمْراً إِنْ تَمَّ اعْتَزَلَكَ([6]) كُلُّهُ، وَإِنْ نَقَصَ لَمْ يَلْحَقْكَ ثَلْمُهُ([7])، وَمَا أَنْتَ وَالْفَاضِلَ وَالْـمَفْضُولَ، وَالسَّائِسَ وَالْـمَسُوسَ!

وَمَا لِلطُّلَقَاءِ وَأَبْنَاءِ الطُّلَقَاءِ، وَالـتَّمْييزَ بَيْنَ الْـمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ، وَتَرْتِيبَ دَرَجَاتِهِمْ، وَتَعْرِيفَ طَبَقَاتِهِمْ! هَيْهَاتَ لَقَدْ حَنَّ قِدْحٌ لَيْسَ مِنْهَا([8])، وَطَفِقَ يَحْكُمُ فِيهَا مَنْ عَلَيْهِ الْـحُكْمُ لَهَا!

أَلاَ تَرْبَعُ أَيُّهَا الإِنْسَانُ عَلَى ظَلْعِكَ([9])، وَتَعْرِفُ قُصُورَ ذَرْعِكَ([10])، وَتَتَأَخَّرُ حَيْثُ أَخَّرَكَ الْقَدَرُ! فَمَا عَلَيْكَ غَلَبَةُ الْـمَغْلُوبِ، وَلا لَكَ ظَفَرُ الظَّافِرِ! وَإِنَّكَ لَذَهَابٌ فِي التِّيهِ، رَوَّاغٌ([11]) عَنِ الْقَصْدِ. أَلاَ تَرَى ـ غَيْرَ مُخْبِرٍ لَكَ، لكِنْ بِنِعْمَةِ اللهِ أُحَدِّثُ ـ أَنَّ قَوْماً اسْتُشْهِدُوا في سَبِيلِ اللهِ مِنَ الْـمُهاجِرينَ وَلِكُلٍّ فَضْلٌ، حَتَّى إِذَا اسْتُشْهِدَ شَهِيدُنَا قِيلَ: سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ ، وَخَصَّهُ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) بِسَبْعِينَ تَكْبِيرَةً عِنْدَ صَلاتِهِ عَلَيْهِ!

أَوَلاَ تَرَى أَنَّ قَوْماً قُطِّعَتْ أَيْديِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ـ وَلِكُلٍّ فَضْلٌ ـ حَتَّى إذَا فُعِلَ بِوَاحِدِنَا كَمَا فُعِلَ بِوَاحِدِهِمْ، قِيلَ: الطَّيَّارُ فِي الْـجَنَّةِ وَذُوالْـجَنَاحَيْنِ! وَلَوْلاَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ مِنْ تَزْكِيَـةِ الْـمَرْءِ نَفْسَـهُ ، لَذَكَـرَ ذَاكِرٌ فَضَائِـلَ جَمَّةً ، تَعْرِفُهَا قُلُوبُ الْـمُؤْمِنِينَ ، وَلا تَمُجُّهَا([12]) آذَانُ السَّامِعِينَ.

فَدَعْ عَنْكَ مَـنْ مَالَتْ بِه الرَّمِيَّةُ([13]) ، فَإِنَّا صَنَائِعُ رَبِّنَا ، وَالنَّاسُ بَعْدُ صَنَائِعُ لَنَا([14]). لَمْ يَمْنَعْنَا قَدِيمُ عِزِّنَا، وَلا عَادِيُّ طَوْلِنَا([15]) عَلَى قَوْمِكَ أَنْ خَلَطْنَاكُمْ بِأَنفُسِنَا، فَنَكَحْنَا وَأَنْكَحْنا، فِعْلَ الأَكْفَاءِ، وَلَسْتُمْ هُنَاكَ!

وَأَنَّى يَكُونُ ذلِكَ كَذَلِكَ وَمِنَّا النَّبِيُّ وَمِنْكُمُ الْـمُكَذِّبُ، وَمِنَّا أَسَدُ اللهِ وَمِنْكُمْ أَسَدُ الأَحْلاَفِ، وَمِنَّا سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْـجَنَّةِ وَمِنْكُمْ صِبْيَةُ النَّارِ، وَمِنَّا خَيْرُ نِسَاءِ الْعَالَـمِينَ وَمِنْكُمْ حَمَّالَةُ الْـحَطَبِ، فِي كَثِيرٍ مِمَّا لَنَا وَعَلَيْكُمْ!

فَإِسْلاَمُنَا مَا قَدْ سُمِعَ، وَجَاهِلِيَّتُنَا لا تُدْفَعُ([16])، وَكِتَابُ اللهِ يَجْمَعُ لَنَا مَا شَذَّ عَنَّا، وَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: <وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ>، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: <إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْـمُؤمِنِينَ>، فَنَحْنُ مَرَّةً أوْلَى بِالْقَرَابَةِ، وَتَارَةً أَوْلَى بِالطَّاعَةِ.

وَلَـمَّا احْتَجَّ الْـمُهَاجِرُونَ عَلَى الأَنْصَارِ يَوْمَ السَّقِيفَةِ بِرَسُولِ الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) فَلَجُوا عَلَيْهِمْ، فَإِنْ يَكُنِ الْفَلَجُ بِهِ فَالْـحَقُّ لَنَا دُونَكُمْ، وَإِنْ يَكُنْ بِغَيْرِهِ فَالأنْصَارُ عَلَى دَعْوَاهُمْ.  

وَزَعَمْتَ أَنِّي لِكُلِّ الْـخُلَفَاءِ حَسَدْتُ، وَعَلَى كُلِّهِمْ بَغَيْتُ، فَإِنْ يَكُنْ ذلِكَ كَذلِكَ فَلَيْسَ الْـجِنَايَةُ عَلَيْكَ، فَيَكُونَ الْعُذْرُ إِلَيْكَ.

«وَتِلْكَ شَكَاةٌ([17]) ظَاهِرٌ([18]) عَنْكَ عَارُهَا»

وَقُلْتَ: إِنِّي كُنْتُ أُقَادُ كَمَا يُقَادُ الْـجَمَلُ الْـمَخْشُوشُ([19]) حَتَّى أُبَايِعَ، وَلَعَمْرُ اللهِ لَقَدْ أَرَدْتَ أَنْ تَذُمَّ فَمَدَحْتَ، وَأَنْ تَفْضَحَ فَافْتَضَحْتَ! وَمَا عَلَى الْـمُسْلِمِ مِنْ غَضَاضَةٍ([20]) فِي أَنْ يَكُونَ مَظْلُوماً مَا لَمْ يَكُنْ شَاكّاً فِي دِينِهِ، وَلا مُرْتَاباً بِيَقِينِهِ! وَهذِهِ حُجَّتِي إِلَى غَيْرِكَ قَصْدُهَا، وَلكِنِّي أَطْلَقْتُ لَكَ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا سَنَحَ مِنْ ذِكْرِهَا.

ثُمَّ ذَكَرْتَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِي وَأَمْرِ عُثْمانَ، فَلَكَ أنْ تُجَابَ عَنْ هذِهِ لِرَحِمِكَ منْهُ، فَأَيُّنَا كَانَ أَعْدَى لَهُ، وَأَهْدَى إِلَى مَقَاتِلِهِ([21])! أَمَنْ بَذَلَ لَهُ نُصْرَتَهُ فَاسْتَقْعَدَهُ([22]) وَاسْتَكَفَّهُ([23])، أَمْ مَنِ اسْتَنْصَرَهُ فَترَاَخى عَنْهُ وَبَثَّ الْـمَنُونَ إِلَيْهِ؛ حَتَّى أَتَى قَدَرُهُ عَلَيْهِ؛ كَلَّا وَاللهِ لَقَد عَلِمَ اللهُ الْـمُعَوِّقِينَ([24]مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأَتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَليلاً. وَمَا كُنْتُ لاَِعْتَذِرَ مِنْ أَنِّي كُنْتُ أَنْقِمُ عَلَيْهِ أَحْدَاثاً، فَإِنْ كَانَ الذَّنْبُ إِلَيْهِ إِرْشَادِي وَهِدَايَتِي لَهُ، فَرُبَّ مَلُومٍ لا ذَنْبَ لَهُ.

«وَقَدْ يَسْتَفِيدُ الظِّنَّةَ الْـمُتَنَصِّحُ»

وَمَا أَرَدْتُ إِلَّا الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ. وَذَكَرْتَ أَنَّهُ لَيْسَ لِي وَلا لأَصْحَابِي عِنْدَكَ إِلَّا السَّيْفُ، فَلَقَدْ أَضْحَكْتَ بَعْدَ اسْتِعْبَارٍ! مَتَى أَلْفَيْتَ بَنِـي عَبْدِ الْـمُطَّلِبِ عَنِ الأَعْدَاءِ نَاكِلِينَ، وبِالسُّيُوفِ مُخَوَّفِينَ!

فَـ(لَبِّثْ([25]) قَلِيلاً يَلْحَقِ الْـهَيْجَا حَمَلْ([26]))

فَسَيَطْلُبُكَ مَنْ تَطْلُبُ، وَيَقْرُبُ مِنْكَ مَا تَسْتَبْعِدُ، وَأَنَا مُرْقِلٌ([27]) نَحْوَكَ فِي جَحْفَلٍ([28]) مِنَ الْـمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَالتَّابِعِينَ [لَـهُمْ] بِإِحْسَانٍ، شَدِيدٍ زِحَامُهُمْ، سَاطِعٍ قَتَامُهُمْ([29])، مُتَسَرْبِلِينَ سَرَابِيلَ الْـمَوْتِ، أَحَبُّ اللِّقَاءِ إِلَيْهِمْ لِقَاءُ رَبِّهِمْ، قَدْ صَحِبَتْهُمْ ذُرِّيَّةٌ بَدْرِيَّةٌ، وَسُيُوفٌ هَاشِمِيَّةٌ، قَدْ عَرَفْتَ مَوَاقِعَ نِصَالِـهَا فِي أَخِيكَ وَخَالِكَ وَجَدِّكَ وَأَهْلِكَ، وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ.

 


[1] ـ ورد بتفاوت عند المنقري (ت 212) في وقعة صفين: 88، وابن أعثم الكوفي (314) في الفتوح 2: 560. وقال ابن أبي الحديد في شرحه 15: 184 ما لفظه: «سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن زيد فقلت: أرى هذا الجواب منطبقاً على كتاب معاوية الذي بعثه مع أبي مسلم الخولاني إلى عليّ  (عليه السلام) ، فإن كان هذا هو الجواب فالجواب الذي ذكره أرباب السير وأورده نصر بن مزاحم في كتاب صفين إذن غير صحيح، وإن كان ذلك الجواب فهذا الجواب اذن غير صحيح ولا ثابت، فقال لي: بل كلاهما ثابت مروي، وكلاهما كلام أميرالمؤمنين (عليه السلام) وألفاظه».

[2] ـ خَبّأ عجباً: أخفى أمراً عجيباً ثم أظهره.

[3] ـ بلاء الله: إنعامه وإحسانه.

[4] ـ هجر: مدينة بالبحرين كثيرة النخيل.

[5] ـ المسدّد: معلم رمي السهام، والنضال: الترامي بالسهام.

[6] ـ اعتزلك: جعلك بمعزل عنه.

[7] ـ ثلمه: عيبه.

[8] ـ مثل يضرب لمن يدخل نفسه بين قوم ليس له أن يدخل بينهم.

[9] ـ الظلع: مصدر ظلع البعير إذا اغمز في مشيه، يقال: اربع على ظلعك أي قف عند حدّك.

[10] ـ الذرع: بسط اليد.

[11] ـ الروّاغ: الميّال.

[12] ـ المجّ: قذف الشيء والقائه.

[13] ـ الرمية: الصيد يرميه الصائد، والمعنى : دع ذكر من مال إلى الدنيا ومالت به، أي أمالته إليها.

[14] ـ قال ابن أبي الحديد في شرحه 15: 194 في هذا المقطع: «هذا كلام عظيم، عالٍ على الكلام، ومعناه عالٍ على المعاني، وصنيعة الملك من يصطنعه الملك ويرفع قدره، يقول: ليس لأحد من البشر علينا نعمة بل الله تعالى هو الذي أنعم علينا، فليس بيننا وبينه واسطة، والناس بأسرهم صنائعنا، فنحن الواسطة بينهم وبين الله تعالى، وهذا مقام جليل ظاهره ما سمعت، وباطنه انّهم عبيدالله وانّ الناس عبيدهم».

[15] ـ عادي: قديم، الطول: الفضل.

[16] ـ أي: شرفنا وفضلنا في الجهالية لا ينكره أحد.

[17] ـ شكاة: نقيصة، وأصلها المرض.

[18] ـ ظاهر: بعيد، زائل.

[19] ـ الجمل المخشوش: هو الذي جعل في أنفه الخشاش، وهو حلقة أو سير يقاد به.

[20] ـ الغضاضة: النقص.

[21] ـ المقاتل: وجوه القتال ومواضعه.

[22] ـ استقعده: طلب قعوده ولم يقبل نصره.

[23] ـ استكفّه: طلب كفّه عن الشيء.

[24] ـ المعوقون: المانعون من النصرة.

[25] ـ لبّث: امهل.

[26] ـ الهيجا: الحرب، وحَمَل: هو ابن بدر، رجل من قشير اُغير على إبله في الجاهلية فاستنقذها.

[27] ـ مرقل: مسرع.

[28] ـ جحفل: الجيش العظيم.

[29] ـ الساطع: الظاهر،والقتام: الغبار.