العربية
100%

[41] ومن كتاب له  (عليه السلام) إلى بعض عماله وهو عبدالله بن العباس([1])

أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي كُنْتُ أَشْرَكْتُكَ فِي أَمَانَتِي، وَجَعَلْتُكَ شِعَارِي وَبِطَانَتِي، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِي رَجُلٌ أَوْثَقَ مِنْكَ فِي نَفْسِي، لِـمُوَاسَاتِي وَمُوَازَرَتِي وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ إِلَيَّ.

فَلَمَّا رَأَيْتَ الزَّمَانَ عَلَى ابْنِ عَمِّكَ قَدْ كَلِبَ، وَالْعَدُوَّ قَدْ حَرِبَ([2])، وَأَمَانَةَ النَّاسِ قَدْ خَزِيَتْ، وَهذهِ الأُمَّةَ قَدْ فَتَنَتْ وَشَغَرَتْ([3])، قَلَبْتَ لاِبْنِ عَمِّكَ ظَهْرَ الْـمِجَنِّ، فَفَارَقْتَهُ مَعَ الْـمُفَارِقِينَ، وَخَذَلْتَهُ مَعَ الْـخَاذِلِينَ، وَخُنْتَهُ مَعَ الْـخَائِنِينَ، فَلاَ ابْنَ عَمِّكَ آسَيْتَ، وَلا الأَمَانَةَ أَدَّيْتَ. وَكَأَنـَّكَ لَمْ تَكُنِ اللهَ تُرِيدُ بِجِهَادِكَ، وَكَأَنَّكَ لَمْ تَكُنْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكَ، وَكَأَنَّكَ إِنَّمَا كُنْتَ تَكِيدُ([4]) هذِهِ الأُمَّةَ عَنْ دُنْيَاهُمْ، وَتَنْوِي غِرَّتَهُمْ عَنْ فَيْئِهِمْ.

فَلَمَّا أَمْكَنَتْكَ الشِّدَّةُ فِي خِيَانَةِ الأُمَّةِ، أَسْرَعْتَ الْكَرَّةَ، وَعَاجَلْتَ الْوَثْبَةَ، وَاخْتَطَفْتَ مَا قَدَرْتَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِـهِمِ الْـمَصُونَةِ لِأَرَامِلِهِمْ وَأَيْتَامِهِمُ، اخْتِطَافَ الذِّئْبِ الأَزَلِّ([5]) دَامِيَةَ([6]) الْـمِعْزَى الْكَسِيرَةَ، فَحَمَلْتَهُ إِلَى الْـحِجَازِ رَحيِبَ الصَّدْرِ بِحَمْلِهِ، غَيْرَ مُتَأَثِّمٍ مِنْ أَخْذِهِ، كَأَنَّكَ ـ لا أَبَا لِغَيْرِكَ ـ حَدَرْتَ([7]) إِلَى أَهْلِكَ تُرَاثَكَ مِنْ أَبِيكَ وَأُمِّكَ، فَسُبْحَانَ اللهِ! أَمَا تُؤْمِنُ بِالْـمَعَادِ! أَوَ مَا تَخَافُ نِقَاشَ الْـحِسَابِ!

أَيُّهَا الْـمَعْدُودُ ـ كَانَ ـ عِنْدَنَا مِنْ ذَوِي الأَلْبَابِ، كَيْفَ تُسِيغُ شَرَاباً وَطَعَاماً، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ تَأْكُلُ حَرَاماً، وَتَشْرَبُ حَرَاماً، وَتَبْتَاعُ الإِمَاءَ وَتَنْكِحُ النِّسَاءَ مِنْ مَالِ الْيَتَامَى وَالْـمَسَاكِينَ وَالْـمُؤْمِنِينَ وَالْـمُجَاهِدِينَ، الَّذِينَ أَفَاءَ اللهُ عَلَيْهِمْ هذِهِ الأَمْوَالَ، وَأَحْرَزَ بِهِمْ هذِهِ الْبِلاَدَ!

فَاتَّقِ اللهَ، وَارْدُدْ إِلَى هؤُلاَءِ الْقَوْمِ أمْوَالَـهُمْ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ ثُمَّ أَمْكَنَنِي اللهُ مِنْكَ لَأُعْذِرَنَّ إِلَى اللهِ فِيكَ، وَلَأَضْرِبَنَّكَ بِسَيْفِي الَّذِي مَا ضَرَبْتُ بِهِ أَحَداً إِلَّا دَخَلَ النَّارَ! وَوَاللهِ لَوْ أَنَّ الْـحَسَنَ وَالْـحُسَيْنَ فعَلاَ مِثْلَ الَّذِي فَعَلْتَ، مَا كَانَتْ لَـهُمَا عِنْدِي هَوَادَةٌ([8])، وَلا ظَفِرَا مِنِّي بِإِرَادَةٍ، حَتَّى آخُذَ الْـحَقَّ مِنْهُمَا، وَأُزِيحَ الْبَاطِلَ عَنْ مَظْلَمَتِهِمَا.

وَأُقْسِمُ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ مَا أَخَذْتَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ حَلاَلٌ لِي، أَتْرُكُهُ مِيرَاثاً لِـمَنْ بَعْدِي، فَضَحِّ رُوَيْداً([9])، فَكَأنَّكَ قَدْ بَلَغْتَ الْـمَدَى([10])، وَدُفِنْتَ تَحْتَ الثَّرَى، وَعُرِضَتْ عَلَيْكَ أَعْمَالُكَ بِالْـمَحَلِّ الَّذِي يُنَادِي الظَّالِـمُ فِيهِ بِالْـحَسْرَةِ ، وَيَتَمَنَّى الْـمُضَيِّعُ الرَّجْعَةَ، وَلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ! وَالسَّلامُ.

 


[1] ـ روى قطعة منه ابن قتيبة (ت 276) في غريب الحديث 1: 369، ورواه أيضاً البلاذري (ت 279) في أنساب الأشراف: 174، والطوسي (ت 460) في اختيار معرفة الرجال 1: 279 عن شيخ من أهل اليمامة، عن معلّى بن هلال عن الشعبي.

وقد أشكل أمر هذا الكتاب على المؤرّخين والباحثين، فبين ناف له أساساً، وبين مصدّق له تماماً مع بعض الإضافات، وبين من توقّف في أمره، كابن أبي الحديد حيث قال في شرحه 16: 172 «وقد أشكل عليَّ أمر هذا الكتاب، فإن أنا كذّبت النقل وقلت: هذا كلام موضوع على أميرالمؤمنين (عليه السلام) خالفت الرواة، فإنّهم قد أطبقوا على رواية هذا الكلام عنه، وقد ذكر في أكثر كتب السير، وإن صرفته إلى عبدالله بن عباس صدّني عنه ما أعلمه من ملازمته لطاعة أميرالمؤمنين (عليه السلام) في حياته وبعد وفاته، وإن صرفته إلى غيره لم أعلم إلى من أصرفه من أهل أميرالمؤمنين (عليه السلام)، والكلام يشعر بأنّ الرجل المخاطب من أهله وبني عمه، فأنا في هذا الموضع من المتوقّفين». 

وقد قال العلّامة السيد محمد تقي الحكيم رحمه الله في كتابه عبدالله بن عباس 1: 396 في الجمع بين الأقوال والروايات ا لمختلفة:

«والطبيعي أن نقول: إنّ يده امتدت ـ لأي اعتبار ـ إلى بيت المال، فتجاوزت حدودها المرسومة من قبل الإمام  (عليه السلام) ، وإنّ أبا الأسود كتب بذلك إلى إمامه  (عليه السلام) والإمام كتب إليه مؤنّباً؛ لأنّ الإمام  (عليه السلام) لم يعوّد عمّاله السكوت على هناتهم، وهم المسؤولون عن حفظ حقوق الناس.

ثم دارت بينهما بعض المكاتبات انتهت بإرجاع ما أخذ من مال، ورضا الإمام  (عليه السلام) عنه، وبقائه على موضعه بالبصرة.

  ومثل هذا الغرض على بساطته ـ إذا حصلنا على سند تاريخي له ـ يملأ جميع الفجوات السابقة؛ لأنّ مثله لا يعلم به عادة إلّا الأقلّون، وهو لا يستوجب وصمته إذا كان له مبرره ـ كما سنرى ـ ليتمسك به أعداؤه إذا علموا، كما أنّه ينسجم مع تاريخه بعد هذه الفترة تمام الانسجام، وهذه التزيّدات التي حدثت بعد زمن طويل طبيعية جداً إذا أحطنا بدوافع الوضع عليه كما جاء في مقدّمة هذا الكتاب، وإلّا فمن المستحيل أن يجد من يهمّهم الوضع عليه كوّة ينفذون منها فلا يوسعونها، ويسلكون إلى انتقاصه من طريقها.

وهذا الفرض لا يتنافى مع مذهب النافين، إذا كان مصدرهم الوحيد هو بقاءه بالبصرة حتى وفاة الإمام  (عليه السلام) وحتى صلح الحسن  (عليه السلام)، ولا ينافي مذهب المثبتين في أساسه أيضاً، وإن نافاه في تفاصيله... .

أما السند التأريخي لهذا الجمع بين الروايات فهو ما ورد في تاريخ اليعقوبي، وهو من أقدم الكتب التاريخية عهداً وأوثقها نقلاً قال: «وكتب أبو الأسود الدؤلي ـ وكان خليفة عبدالله بن عباس في البصرة ـ إلى علي  (عليه السلام) يعلمه أنّ عبدالله بن عباس أخذ من بيت المال عشرة آلاف درهم، فكتب إليه يقسم له بالله لتردّنّها، فلمّا ردّها عبدالله بن عباس، أو ردّ أكثرها كتب إليه علي  (عليه السلام): «أما بعد فإنّ المرء يسرّه درك ما لم يكن ليفوته، ويسؤوه فوت ما لم يكن ليدركه، فما أتاك من الدنيا فلا تكثر به فرحاً، وما فاتك منها فلا تكثر عليه جزعاً، واجعل همّك لما بعد الموت والسلام...» فكان ابن عباس يقول: ما اتّعظت بكلام قطّ اتعاضي بكلام أميرالمؤمنين».

[2] ـ حرب: اشتد غضبه.

[3] ـ شغرت: خلت من الخير أو تفرّقت.

[4] ـ كاده عن الأمر: خدعه حتى ناله منه.

[5] ـ الذئب الأزل: الخفيف الوركين، وذلك أشد لعدوه.

[6] ـ الدامية: المجروحة.

[7] ـ حدرت: أسرعت إليهم.

[8] ـ الهوادة: الصلح واختصاص من شخص ما بميل إليه وملاطفة له.

[9] ـ فضح رويداً: كلمة تقال لمن يؤمر بالتؤدة والأناة والسكينة.

[10] ـ المدى: الغاية.