العربية
100%
بَابُ المخُتَْارِ مِنْ خُطب مولانا أمير المؤُمِنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)

الخطبة 28: وهو فصل من الخطبة التي أولها: «الحمد لله غير مقنوط من رحمته»

[28] ومن خطبة له (عليه السلام) ([1])

[في التزهيد في الدنيا]

أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ أَدْبَرَتْ، وَآذَنَتْ بِوَدَاعٍ، وَإِنَّ الآخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ، وَأَشْرَفَتْ بِاطِّلاَع، أَلاَ وَإِنَّ اليَوْمَ المِضْمارَ([2])، وَغَداً السِّبَاقَ، وَالسَّبَقَةُ الجَنَّةُ، وَالغَايَةُ النَّارُ؛ أَفَلاَ تَائِبٌ مِنْ خَطِيئَتِهِ قَبْلَ مَنِيَّتِهِ! أَلاَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ قَبْلَ يَوْمِ بُؤْسِهِ! أَلَا وَإِنَّكُمْ فِي أَيَّامِ أَمَلٍ مِنْ وَرَائِهِ أَجَلٌ، فَمَنْ عَمِلَ في أَيَّامِ أَمَلهِ قَبْلَ حُضُورِ أَجَلِهِ فَقَدْ نَفَعَهُ عَمَلُهُ، وَلَمْ يَضرُرْهُ أَجَلُهُ; وَمَنْ قَصَّرَ فِي أَيَّامِ أَمَلِهِ قَبْلَ حُضُورِ أَجَلِهِ، فَقَدْ خَسِرَ عَمَلَهُ، وَضَرَّهُ أَجَلُهُ، أَلاَ فَاعْمَلُوا فِي الرَّغْبَةِ كَمَا تَعْمَلُونَ فِي الرَّهْبَةِ، أَلاَوَإِنِّي لَمْ أَرَ كَالجَنَّةِ نَامَ طَالِبُهَا، وَلا كَالنَّارِ نَامَ هَارِبُهَا، أَلا وَإنَّهُ مَنْ لاَيَنْفَعُهُ الحقُّ يَضْرُرْهُ البَاطِلُ، وَمَنْ لا يَسْتَقِيْمُ بِهِ الهُدَى يَجُرُّ بِهِ الضَّلاَلُ إِلَى الرَّدَى، أَلاَ وَإِنَّكُمْ قَد أُمِرْتُمْ بِالظَّعْنِ([3])، وَدُلِلْتُمْ عَلى الزَّادِ؛ وَإِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخافُ عَلَيْكُمُ: اتِّبَاعُ الهَوَى، وَطُولُ الأمَلِ، تَزَوَّدُوا فِي الدُّنْيَا مِنَ الدُّنْيَا مَا تَحُوزُونَ بِهِ أَنْفُسَكُمْ غَداً.

قال السيد: وأقول: إنّهُ لو كان كلامٌ يأخذ بالأعناقِ إلى الزهدِ في الدنيا، ويضطرُّ إلى عمل الآخرةِ لكان هذا الكلامَ، وكفى به قاطِعاً لعلائقِ الآمال، وقادِحاً زِنادَ الاتِّعاظ والازدِجار. ومِن أعجبه قوله  (عليه السلام): «ألا وَإنّ اليَوْمَ المِضْمارَ وَغَداً السِبَاقَ، وَالسَّبَقَةُ الجَنّةُ وَالغَايَةُ النّار» فإنّ فيه ـ مع فخامة اللفظِ، وعِظَمِ قَدْرِ الـمَعْنى، وصادق التمثيلِ، وواقعِ التشبيهِ ـ سِرّاً عجيباً، ومَعنًى لطيفاً، وهو قوله  (عليه السلام): «والسَبَقَةُ الجَنّةُ، وَالغَايَةُ النّارُ»، فخالف بين اللفظينِ لاختلافِ المعنيينِ، ولم يقل: «والسّبَقَةُ النّارُ» كما قال: «والسّبَقَةُ الجَنّةُ»، لأنّ الاستباقَ إنّما يكونُ إلى أمرٍ محبوبٍ، وغرَضٍ مطلوبٍ، وهذه صفةُ الجنَّةِ، وليسَ هذا المعنى موجوداً في النارِ، نعوذُ باللهِ منها! فلم يـَجُز أن يقولَ: «والسّبَقَةُ النّارُ»، بل قال: «والغَايَةُ النّار»، لأنّ الغايةَ قد ينتهِي إليها من لا يَسُرّهُ الانتهاءُ إليها ومن يَسُرّهُ ذلك، فصَلَحَ أن يُعبّر بها عن الأمرين معاً، فهي في هذا الموضع كالمصيرِ والمآلِ، قال الله تعالى: ﴿قُلْ تَمتَّعُوا فَإنَّ مَصِيرَكُم إلى النّارِ﴾، ولا يجوز في هذا الموضع أن يُقال: فانّ «سبْقتكُم إلى النار»، فتأمّل ذلك، فباطِنهُ عجيب، وغورُه بعيدٌ، وكذلك أكثرُ كلامِه  (عليه السلام).

وقد جاء في رواية أخرى: «والسُّبْقةُ الجنةُ» بضم السين، والسبّقةُ اسم عندهم لما يُـجعلُ للسابِقِ إذا سَبَقَ من مال أوعَرَض، والمعنيان متقاربان، لأنّ ذلك لا يكون جزاءً على فِعل الأمر المذموم، وإنّما يكون جزاءً على فعل الأمر المحمود.

 


[1] ـ رواها الاسكافي (ت220) في المعيار والموازنة : 283، والجاحظ (ت255) في البيان والتبيين 2 : 66، وابن قتيبة (ت276) في الامامة والسياسة 1: 70، وابن عبد ربه (ت328) في العقد الفريد 4 : 70، والمسعودي (ت346) في مروج الذهب 2: 436، وابن شعبة (ق4) في تحف العقول : 153، والباقلاني (ت403) في إعجاز القرآن : 145، والشيخ المفيد (ت413) في الارشاد 1: 235 وقال: «اشتهر بين العلماء وحفظه ذوو الفهم والحكماء».

[2] ـ المضمار: المكان والزمان الذي تضمّر فيه الخيل للسباق، والضمر: الهزال وخفة اللحم.

[3] ـ ظَعَنَ: سار وارتحل، والظعن: السفر.