العربية
100%

[82] ومن خطبة له (عليه السلام) وهي من الخطب العجيبة تسمّى «الغراء»([1])

الْـحَمْدُ للهِ الَّذِي عَلاَ بِحَوْلِهِ، ودَنَا بِطَوْلِهِ([2])، مَانِحِ كُلِّ غَنِيمَةٍ وَفَضْلٍ، وَكَاشِفِ كُلِّ عَظِيمَةٍ وَأَزْلٍ. أَحْمَدُهُ عَلَى عَوَاطِفِ كَرَمِهِ، وَسَوَابِغِ نِعَمِهِ، وَأُؤْمِنُ بِهِ أَوَّلاً بَادِياً، وَأَسْتَهْدِيهِ قَرِيباً هَادِياً، وَأَسْتَعِينُهُ قَاهِراً قَادِراً، وَأَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ كَافِياً نَاصِراً. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ لإِنْفَاذِ أَمْرِهِ، وَإِنْهَاءِ عُذْرِهِ، وَتَقْدِيمِ نُذُرِهِ.

أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللهِ بِتَقْوَى اللهِ الَّذِي ضَرَبَ لَكُمُ الأمْثَالَ، وَوَقَّتَ لَكُمُ الآجَالَ، وَأَلْبَسَكُمُ الرِّيَاشَ([3])، وَأَرْفَغَ([4]) لَكُمُ الـمَعَاشَ، وَأَحَاطَ بِكُمُ الاِحْصَاءَ([5])، وَأَرْصَدَ([6]) لَكُمُ الْـجَزَاءَ، وَآثَرَكُمْ بِالنِّعَمِ السَّوَابغِ، وَالرِّفَدِ الرَّوافِغِ، وَأَنْذَرَكُمْ بِالْـحُجَجِ الْبَوَالِغِ؛ فَأَحْصَاكُمْ عَدَداً، ووَظَّفَ لَكُمْ مُدَداً([7])، فِي قَرَارِ خِبْرَةٍ([8])، وَدَارِ عِبْرَةٍ، أَنْتُمْ مُخْتَبَرُونَ فِيهَا، وَمُحَاسَبُونَ عَلَيْهَا.

فَإِنَّ الدُّنْيَا رَنِقٌ([9]) مَشْرَبُهَا، رَدِغٌ مَشْرَعُهَا، يُونِقُ([10]) مَنْظَرُهَا، وَيُوبِقُ مَخْبَرُهَا، غُرُورٌ حَائِلٌ([11])، وَضَوْءٌ آفِلٌ، وَظِلٌّ زائِلٌ، وَسِنَادٌ مَائِلٌ، حَتَّى إِذَا أَنِسَ نَافِرُهَا، وَاطْمَأَنَّ نَاكِرُهَا، قَمَصَتْ([12]) بِأَرْجُلِهَا، وَقَنَصَتْ بِأَحْبُلِهَا([13])، وَأَقْصَدَتْ بِأَسْهُمِهَا، وَأَعْلَقَتِ([14]) الْـمَرْءَ أَوْهَاقَ([15]) الْـمَنِيَّةِ، قَائِدَةً لَهُ إِلى ضَنْكِ الْـمَضْجَعِ، وَوَحْشَةِ الْـمَرْجِعِ، ومُعَايَنَةِ الْـمَحَلِّ، وَثَوَابِ الْعَمَلِ، وَكَذلِكَ الْـخَلَفُ بِعَقِبِ السَّلَفِ؛ لاَتُقْلِعُ الْـمَنِيَّةُ اخْتِرَامَاً([16]) ، وَلَا يَرْعَوِي الْبَاقُونَ اجْترَاماً([17])، يَحْتَذُون مِثَالاً([18])، وَيَمْضُونَ أَرْسَالاً([19])، إِلَى غَايَةِ الإنْتِهَاءِ، وَصَيُّورِ([20]) الْفَنَاءِ.

حَتَّى إِذَا تَصَرَّمَتِ الأمُورُ، وَتَقَضَّتِ الدُّهُورُ، وَأَزِفَ([21]) النُّشُورُ، أَخْرَجَهُمْ مِنْ ضَرَائِحِ([22]) الْقُبُورِ ، وَأَوْكَارِ الطُّـيُـورِ ، وَأَوْجِرَةِ([23]) السِّبَاعِ ، وَمَطَـارِحِ الْـمَهَالِكِ، سِرَاعاً إِلَى أَمْرِهِ، مُهْطِعِينَ([24]) إِلَى مَعَادِهِ، رَعِيلاً صُمُوتاً([25])، قِيَاماً صُفُوفاً، يَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ([26])، وَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي([27])، عَلَيْهِمْ لَبُوسُ الاسْتِكانَةِ([28])، وَضَرَعُ([29]) الاسْتِسْلاَمِ وَالذِّلَّةِ، قَدْ ضَلَّتِ الْحِيَلُ، وانْقَطَعَ الأمَلُ، وَهَوَتِ الأفْئِدَةُ كَاظِمَةً([30])، وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ مُهَيْنِمَةً([31])، وَألْـجَمَ الْعَرَقُ([32])، وَعَظُمَ الشَّفَقُ([33])، وَأُرْعِدَتِ الأسْمَاعُ لِزَبْرَةِ الدَّاعِي إِلَى فَصْلِ الْخِطَابِ، وَمُقَايَضَةِ([34]) الْـجَزَاءِ، وَنَكَالِ الْعِقَابِ، وَنَوَالِ الثَّوَابِ.

عِبَادٌ مَخْلُوقُونَ اقْتِدَاراً، وَمَرْبُوبُونَ اقْتِسَاراً([35])، وَمَقْبُوضُونَ احْتِضَاراً، وَمُضَمَّنُونَ أَجْدَاثاً، وَكَائِنُونَ رُفَاتاً، وَمَبْعُوثُونَ أَفْرَاداً، وَمَدِينُونَ([36]) جَزَاءً، وَمُمَيَّزُونَ حِسَاباً([37]); قَدْ أُمْهِلُوا فِـي طَلَبِ الْـمَخْرَجِ، وَهُدُوا سَبِيلَ الْـمَنْهَجِ، وَعُمِّرُوا مَهَلَ الْـمُسْتَعْتَبِ، وَكُشِفَتْ عَنْهُمْ سُدَفُ الرِّيَبِ([38])، وَخُلُّوا لِـمِضْمَارِ([39]) الْجِيَادِ، وَرَوِيَّةِ الارْتِيَادِ([40])، وَأَنَاةِ الْـمُقْتَبِسِ الْـمُرْتَادِ([41])، فِي مُدَّةِ الأجَلِ، وَمُضْطَرَبِ الْـمَهَلِ([42]).

فَيَا لَـهَا أَمْثَالاً صَائِبَةً، وَمَوَاعِظَ شَافِيَةً، لَوْ صَادَفَتْ قُلُوباً زاكِيَةً، وَأَسْمَاعاً وَاعِيَةً، وَآرَاءً عَازِمَةً، وَأَلْبَاباً حَازِمَةً! فَاتَّقُوا اللهَ تَقِيَّةَ مَنْ سَمِعَ فَخَشَعَ، وَاقْتَرَفَ فَاعْتَرَفَ، وَوَجِلَ فَعَمِلَ، وَحَاذَرَ فَبَادَرَ، وَأَيْقَنَ فَأَحْسَنَ، وَعُبِّرَ فَاعْتَبَرَ، وَحُذِّرَ فَازْدَجَرَ، وَأَجَابَ فأَنَابَ، وَرَاجَعَ فَتَابَ، وَاقْتَدَى فَاحْتَذَى، وَأُرِيَ فَرَأَى، فَأَسْرَعَ طَالِباً، وَنَجَا هَارِباً، فَأَفَادَ ذَخِيرَةً، وَأَطَابَ سَرِيرَةً، وَعَمَّرَ مَعَاداً، وَاسْتَظْهَرَ زَاداً([43]) لِيَوْمِ رَحِيلِهِ وَوَجْهِ سَبِيلِهِ، وَحَالِ حَاجَتِهِ، وَمَوْطِنِ فَاقَتِهِ، وَقَدَّمَ أَمَامَهُ لِدَارِ مُقَامِهِ.

فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ جِهَةَ مَا خَلَقَكُمْ لَهُ، وَاحْذَرُوا مِنْهُ كُنْهَ مَا حَذَّرَكُمْ مِنْ نَفْسِهِ، وَاسْتَحِقُّوا مِنْهُ مَا أَعَدَّ لَكُمْ بِالتَّنَجُّزِ لِصِدْقِ مِيعَادِهِ، وَالْـحَذَرِ مِنْ هَوْلِ مَعَادِهِ.

 

منها: [في التذكير بضروب النعم]

جَعَلَ لَكُمْ أسْمَاعاً لِتَعِيَ مَا عَنَاهَا([44])، وَأَبْصَاراً لِتَجْلُوَ عَنْ عَشَاهَا([45])، وَأَشْلاَءً([46]) جَامِعَةً لاَِعْضَائِهَا، مُلاَئِمَةً لاَِحْنَائِهَا([47]) في تَرْكِيبِ صُوَرِهَا، وَمُدَدِ عُمُرِهَا، بِأَبْدَانٍ قَائِمَةٍ بِأَرْفَاقِهَا([48])، وَقُلُوبٍ رائِدَةٍ([49]) لأرْزَاقِهَا، فِي مُجَلِّلاَتِ نِعَمِهِ، وَمُوجِبَاتِ مِنَنِهِ، وَحَوَاجِزِ عَافِيَتِهِ([50]). وَقَدَّرَ لَكُمْ أَعْمَاراً سَتَرَهَا عَنْكُمْ، وَخَلَّفَ لَكُمْ عِبَراً مِنْ آثَارِ الْـمَاضِينَ قَبْلَكُمْ، مِنْ مُسْتَمْتَعِ خَلاَقِهِمْ، وَمُسْتَفْسَحِ خَنَاقِهِمْ([51]).

أَرْهَقَتْهُمُ الْـمَنَايَا([52]) دُونَ الآمَالِ، وَشَذَّبَهُمْ عَنْهَا([53]) تَخَرُّمُ([54]) الآجَالِ، لَمْ يَمْهَدُوا فِي سَلَامَةِ الأَبْدَانِ، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا فِي أُنُفِ الأَوَانِ([55]). فَهَلْ يَنْتَظِرُ أَهْلُ بَضَاضَةِ([56]) الشَّبَابِ إِلَّا حَوَانِيَ([57]) الْـهَرَمِ؟ وَأَهْلُ غَضَارَةِ([58]) الصِّحَّةِ إِلاَّ نَوَازِلَ السَّقَمِ؟ وَأَهْلُ مُدَّةِ الْبَقَاءِ إِلاَّ آوِنَةَ الْفَنَاءِ([59])؟ مَعَ قُرْبِ الزِّيَالِ([60])، وَأُزُوفِ([61]) الانتِقَالِ، وَعَلَزِ([62]) الْقَلَقِ، وَأَلَمِ الْـمَضَضِ([63])، وَغُصَصِ الـْجَرَضِ([64])، وَتَلَفُّتِ الاِسْتِغَاثَةِ بِنُصْرَةِ الحَفَدَةِ وَالأَقْرِبَاءِ، وَالأَعِزَّةِ وَالْقُرَنَاءِ!

فَهَلْ دَفَعَتِ الأَقَارِبُ، أَوْ نَفَعَتِ النَّوَاحِبُ! وَقَدْ غُودِرَ فِي مَحَلَّةِ الأَمْوَاتِ رَهِيناً، وَفِي ضِيقِ الْـمَضْجَعِ وَحِيداً، قَدْ هَتَكَتِ الْـهَوَامُّ([65]) جِلْدَتَهُ، وَأَبْلَتِ النَّوَاهِكُ([66]) جِدَّتَهُ، وَعَفَتِ الْعَوَاصِفُ آثَارَهُ، وَمَحَا الْـحَدَثَانُ مَعَالِـمَهُ([67])، وَصَارَتِ الأَجْسَادُ شَحِبَةً([68]) بَعْدَ بَضَّتِهَا([69])، وَالْعِظَامُ نَخِرَةً بَعْدَ قُوَّتِهَا، وَالأَرْوَاحُ مُرْتَهَنَةً بِثِقَلِ أَعْبَائِهَا، مُوقِنَةً بِغَيْبِ أَنْبَائِهَا، لا تُسْتَزَادُ مِنْ صَالِحِ عَمَلِهَا، وَلا تُسْتَعْتَبُ([70]) مِنْ سَيِّىءِ زَلَلِهَا! أَوَلَسْتُمْ أَبْنَاءَ الْقَوْمِ وَالآبَاءَ، وَإِخْوَانَهُمْ وَالأَقْرِبَاءَ؟ تَحْتَذُونَ أَمْثِلَتَهُمْ، وَتَرْكَبُونَ قِدَّتَهُمْ([71])، وَتَطَؤُونَ جَادَّتَهُمْ! فَالْقُلُوبُ قَاسِيَةٌ عَنْ حَظِّهَا، لاَهِيَةٌ عَنْ رُشْدِهَا، سَالِكَةٌ في غَيْرِ مِضْمَارِهَا! كَأَنَّ الْـمَعْنِيَّ سِوَاهَا، وَكَأَنَّ الرُّشْدَ في إحْرَازِ دُنْيَاهَا.

وَاعْلَمُوا أَنَّ مَجَازَكُمْ عَلَى الصِّراطِ وَمَزَالِقِ دَحْضِهِ، وَأَهَاوِيلِ زَلَلِـهِِ، وَتَارَاتِ([72]) أَهْوَالِهِ فَاتَّقُوا اللهَ تَقِيَّةَ ذِي لُبٍّ شَغَلَ التَّفَكُّرُ قَلْبَهُ، وَأَنْصَبَ الْـخَوْفُ بَدَنَهُ، وَأَسْهَرَ التَّهَجُّدُ غِرَارَ نَوْمِهِ([73])، وَأَظْمَأَ الرَّجَاءُ هَوَاجِرَ([74]) يَوْمِهِ، وَظَلَفَ([75]) الزُّهْدُ شَهَوَاتِهِ، وَأَوْجَفَ([76]) الذِّكْرُ بِلِسَانِهِ، وَقَدَّمَ الْـخَوْفَ لاَِمَانِهِ([77])، وَتَنَكَّبَ المخَالِجَ([78]) عَنْ وَضَحِ([79]) السَّبِيلِ، وَسَلَكَ أَقْصَدَ المَسَالِكِ إِلَى النَّهْجِ الْـمَطْلُوبِ; وَلَمْ تَفْتِلْهُ([80]) فَاتِلاَتُ الْغُرُورِ، وَلَمْ تَعْمَ عَلَيْهِ([81]) مُشْتَبِهَاتُ الأمُورِ، ظَافِراً بِفَرْحَةِ الْبُشْرَى، وَرَاحَةِ النُّعْمَى، في أَنْعَمِ نَوْمِهِ، وَآمَنِ يَوْمِهِ. قَدْ عَبَرَ مَعْبَرَ الْعَاجِلَةِ حَمِيداً، وَقَدَّمَ زَادَ الآجِلَةِ سَعِيداً، وَبَادَرَ مِنْ وَجَلٍ، وَأَكْمَشَ([82]) فِي مَهَلٍ، وَرَغِبَ فِي طَلَبٍ، وَذَهَبَ عَنْ هَرَبٍ، وَرَاقَبَ فِي يَوْمِهِ غَدَهُ، وَنَظَرَ قُدُماً([83]) أَمَامَهُ. فَكَفَى بِالْـجَنَّةِ ثَوَاباً وَنَوَالاً، وَكَفى بِالنَّارِ عِقَاباً وَوَبَالاً، وَكَفَى بِاللهِ مُنْتَقِماً وَنَصِيراً، وَكَفَى بِالكِتَابِ حَجِيْجَاً وَخَصِيْمَاً.

أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ الَّذِي أَعْذَرَ بِمَا أَنْذَرَ، وَاحْتَجَّ بِمَا نَهَجَ، وَحَذَّرَكُمْ عَدُوّاً نَفَذَ فِي الصُّدُورِ خَفِيّاً، وَنَفَثَ فِي الآذَانِ نَجِيّاً([84])، فَأَضَلَّ وَأَرْدَى، وَوَعَدَ فَمَنَّى([85])، وَزَيَّنَ سَيِّئَاتِ الْـجَرَائِمِ، وَهَوَّنَ مُوبِقَاتِ الْعَظَائِمِ، حَتَّى إِذَا اسْتَدْرَجَ قَرِينَتَهُ([86])، وَاستَغْلَقَ رَهِينَتَهُ([87])، أَنْكَرَ مَا زَيَّنَ، وَاسْتَعْظَمَ مَا هَوَّنَ، وَحَذَّرَ مَا أَمَّنَ.

 

منها: في صفة خلق الإنسان

أَمْ هذَا الَّذِي أَنْشَأَهُ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْحَامِ، وَشُغُفِ([88]) الأَسْتَارِ، نُطْفَةً دِفَاقَاً، وَعَلَقَةً مِحَاقاً([89])، وَجَنِيناً وَرَاضِعاً، وَوَلِيداً وَيَافِعاً([90]).

ثُمَّ مَنَحَهُ قَلْباً حَافِظاً ، وَلِساناً لَافِظـاً، وَبَصَراً لاَحِظاً، لِيَفْهَـمَ مُعْتَبِراً، وَيُقَصِّرَ([91]) مُزْدَجِراً; حَتَّى إِذَا قَامَ اعْتِدَالُهُ، وَاسْتَوَى مِثالُهُ، نَفَرَ مُسْتَكْبِراً، وَخَبَطَ سَادِراً([92])، مَاتِحاً فِي غَرْبِ([93]) هَوَاهُ، كَادِحاً سَعْياً لِدُنْيَاهُ، فِي لَذَّاتِ طَرَبِهِ، وَبَدَوَاتِ أَرَبِهِ([94]) ؛ لا يَحْتَسِبُ رَزِيَّةً([95]) ، وَلا يَخْشَعُ تَقِيَّةً([96])؛ فَمَاتَ فِي فِتْنَتِهِ غَرِيراً، وَعَاشَ فِي هَفْوَتِهِ أَسِيْرَاً، لَمْ يُفِدْ عِوَضاً([97])، وَلَمْ يَقْضِ مُفْتَرَضَاً.

دَهِمَتْهُ فَجَعَاتُ الْـمَنِيَّةِ فِي غُبَّرِ([98]) جِمَاحِهِ([99])، وَسَنَنِ مِرَاحِهِ([100])، فَظَلَّ سَادِراً([101])، وَبَاتَ سَاهِراً فِي غَمَرَاتِ الآلاَمِ، وَطَوَارِقِ الأَوْجَاعِ والأَسْقَامِ، بَيْنَ أَخٍ شَقِيقٍ، وَوَالِدٍ شَفِيقٍ، وَدَاعِيَةٍ بِالْوَيْلِ جَزَعاً، وَلاَدِمَةٍ([102]) لِلصَّدْرِ قَلَقاً. وَالْـمَرءُ فِي سَكْرَةٍ مُلْهِيَةٍ، وَغَمْرَةٍ كَارِثَةٍ([103])، وَأَنَّةٍ مُوجِعَةٍ، وَجَذْبَةٍ مُكْرِبَةٍ([104]) وَسَوْقَةٍ([105]) مُتْعِبَةٍ. ثُمَّ أُدْرِجَ فِي أَكْفَانِهِ مُبْلِساً([106])، وَجُذِبَ مُنْقَاداً سَلِساً، ثُمَّ أُلْقِيَ عَلَى الأعَوادِ رَجِيعَ وَصَبٍ([107])، وَنِضْوَ([108]) سَقَمٍ، تَحْمِلُهُ حَفَدَةُ([109]) الْوِلْدَانِ، وَحَشَدَةُ الإِخْوَانِ([110])، إِلَى دَارِ غُرْبَتِهِ، وَمُنْقَطَعِ زَوْرَتِهِ([111]) ؛ حَتَّى إِذَا انْصَرَفَ الْـمُشَيِّعُ ، وَرَجَـعَ الْـمُتَفَجِّـعُ أُقْعِدَ فِي حُفْـرَتِهِ نَجِيّاً لِبَهْتَةِ([112]) السُّؤَالِ، وَعَثْرَةِ الإمْتِحَانِ. وَأَعْظَمُ مَا هُنَالِكَ بَلِيَّةً نُزُلُ الْـحَمِيمِ، وَتَصْلِيَةُ الْـجَحِيمِ، وَفَوْرَاتُ السَّعِيرِ [وَسَوْراتُ الزَّفِيْرِ]، لا فَتْرَةٌ مُرِيحَةٌ، وَلا دَعَةٌ مُزِيحَةٌ([113])، وَلا قُوَّةٌ حَاجِزَةٌ، وَلا مَوْتَةٌ نَاجِزَةٌ، وَلا سِنَةٌ مُسَلِّيَةٌ، بَيْنَ أَطْوَارِ الْـمَوْتَاتِ([114])؛ وَعَذَابِ السَّاعَاتِ؛ إنَّا للهِ وَإنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ! إِنَّا بِاللهِ عَائِذُونَ!

عِبَادَ اللهِ، أَيْنَ الَّذِينَ عُمِّرُوا فَنَعِمُوا، وَعُلِّمُوا فَفَهِمُوا، وَأُنْظِرُوا فَلَهَوْا، وَسُلِّمُوا فَنَسُوا؟! أُمْهِلُوا طَوِيلاً، وَمُنِحُوا جَميِلاً، وَحُذِّرُوا ألِيماً، وَوُعِدُوا جَسِيماً احْذَرُوا الذُّنُوبَ الْـمُوَرِّطَةَ، وَالْعُيُوبَ الْـمُسْخِطَةَ. يا أُولِي الأبْصَارِ والأسْمَاعِ، وَالْعَافِيَةِ وَالمَتَاعِ، هَلْ مِنْ مَنَاصٍ أَوْ خَلاَصٍ، أَوْ مَعَاذٍ أَوْ مَلاَذٍ، أَوْ فِرَارٍ أَوْ مَحَارٍ([115])! أَمْ لاَ؛ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ! أَمْ أَيْنَ تُصْرَفُونَ! أَمْ بِمَاذَا تَغْتَرُّونَ! وَإِنَّمَا حَظُّ أَحَدِكُمْ مِنَ الأَرْضِ، ذَاتِ الطُّولِ وَالْعَرْضِ، قِيدُ قَدِّهِ([116])، مُنْعَفِراً([117]) عَلى خَدِّهِ.

الآنَ عِبَادَ اللهِ وَالْخِنَاقُ([118]) مُهْمَلٌ، وَالرُّوحُ مُرْسَلٌ، فِي فَيْنَةِ([119]) الإِرْشَادِ، وَرَاحَةِ الأجْسَادِ، وَمَهَلِ الْبَقِيَّةِ([120])، وَأُنُفِ الْـمَشِيَّةِ([121])، وَإِنْظَارِ التَّوْبَةِ، وَانْفِسَاحِ الْـحَوْبَةِ([122]) قَبْلَ الضَّنْكِ وَالْـمَضِيقِ، وَالرَّوْعِ وَالزُّهُوقِ([123])، وَقَبْلَ قُدُومِ الْغَائِبِ المُنتَظَرِ([124])، وَأَخْذَةِ الْعَزِيزِ الْـمُقْتَدِرِ.

وفي الخبر: أ نّه (عليه السلام) لمّا خطب بهذه الخطبة اقشعرت لَـهَا الجلود، وبكت العيون، ورجفت القلوب. ومن الناس من يسمي هذه الخطبة: «الغراء».

 

 


[1] ـ وردت بعض مقـاطعها في مصـادر مختلفـة قبل الرضي وبعده ، راجع ابن شعبـة (ق 4) في تحف العقـول: 210، أبو طالب المكي (ت 424) في تيسير المطالب: 193، أبو نُعيم الإصفهاني (ت 430) في حلية الأولياء 1: 77، والقاضي القضاعي (ت 454) في دستور معالم الحكم: 59، وذكر ابن أبي الحديد في شـرحـه 6: 277 كلام الجاحظ انّ يحيى البرمكي استشهد بقوله (عليه السلام) : « هل مـن منـاص أو خـلاص، أو معاذ أو ملاذ، أو فرار أو محار» ، واستشهد ابن الأثير ( ت 606 ) في النهايـة بكثيـر من مقاطعها ، راجع مادة «بضض» ، «علز» «غضض» وغيرها [مصادر نهج البلاغة 2: 103 ـ 107].

[2] ـ الطول: الفضل والسعة.

[3] ـ الريش والرياش: اللباس الفاخر.

[4] ـ أرفغ: أوسع، وعيش رافغ: واسع.

[5] ـ وأحاط بكم الإحصاء: أي جعل الاحصاء ـ وهو الحصر ـ محيطاً بأعمالكم صغيرها وكبيرها.

[6] ـ أرصد: أعد.

[7] ـ وظّف: أي قدّر وعيّن، ومُدداً: جمع مدّة.

[8] ـ قرار خبرة: أي دار بلاء واختبار.

[9] ـ رنق: كدر.

[10] ـ الردغ: الوحل الشديد، والمشرع: الشريعة أي مورد الشاربة. يُونق: يُعجب.

[11] ـ الحائل: الزائل.

[12] ـ نافرها: أي من كان نافراً عنها. قمص الفرس: أن يرفع يديه معاً ويضعهما معاً.

[13] ـ قنصت بأحبلها: أي صادت بحبالاتها وشركها.

[14] ـ أقصد السهم: أصاب وقتل مكانه. أعلقت: أي جعلتها عالقة به.

[15] ـ الأوهاق: جمع وهق وهو الحبل.

[16] ـ لا تقلع المنية: أي لا تكفّ، والاخترام: اذهاب الأنفس واستئصالها.

[17] ـ ارعوى: كفّ عن الأمر وأمسك، والاجترام: اقتراف الجرائم والآثام.

[18] ـ يحتذون مثالاً: أي يقتدي الخلف بالسلف.

[19] ـ الارسال: جمع رَسَل، وهو القطيع من الإبل والغنم، يقال: جاءت أرسالاً، أي قطيعاً قطيعاً.

[20] ـ صيّور الأمر: آخره وما يؤول إليه.

[21] ـ أزف: قرب ودنا.

[22] ـ الضريح: الشق في وسط الأرض.

[23] ـ أوجرة السباع: جمع وجار، وهو بيت السبع والضبع ونحوهما.

[24] ـ هطع: أسرع.

[25] ـ الرعيل: القطعة من الخيل، والصموت: السكوت.

[26] ـ ينفذهم البصر: أي أنّه تعالى يحيط بهم علماً ولا يخفون عنه.

[27] ـ يُسمعهم الداعي: أي كل واحد يسمع صيحة البعث للحساب والجزاء.

[28] ـ اللبوس: ما يلبس، والاستكانة: الخضوع

[29] ـ الضرع: الخشوع والضعف.

[30] ـ هوت: سقطت، وكاظمة: ساكتة.

[31] ـ الهينمة: الصوت الخفي.

[32] ـ ألجم العرق: صار لجاماً

[33] ـ الشفق: الخوف.

[34] ـ المقايضة: المعاوضة.

[35] ـ مربوبون: مملوكون، والاقتسار: الغلبة والقهر.

[36] ـ مدينون: مجزيّون.

[37] ـ مميّزون حساباً: أي كلٌّ يحاسب على عمله منفصلاً عمّن سواه.

[38] ـ السدف: جمع سدفة، قطعة من الليل المظلم، والريب: الشبهة.

[39] ـ التضمير: أن يُعلف الفرس حتى يسمن.

[40] ـ الروية: التفكر، والارتياد: الطلب.

[41] ـ الأناة: التؤدة والانتظار، والمقتبس المرتاد: طالب العلم.

[42] ـ المَهَل: بمعنى الدنيا هنا.

[43] ـ استظهر زاداً: حمل زاداً على ظهر راحلته.

[44] ـ لتعي ما عناها: أي لتحفظ وتفهم ما أهمّها.

[45] ـ لتجلو: لتكشف، والعشى: ضعف البصر.

[46] ـ الأشلاء: جمع شلو، وهو العضو.

[47] ـ الحنو: الجانب.

[48] ـ الرفق: النفع.

[49] ـ رائدة: طالبة.

[50] ـ الحواجز: الموانع، والمعنى في عافية تحجز وتمنع عنكم المضار.

[51] ـ الخلاق: النصيب، والمستفسح: المتسع، والخناق: حبل يُخنق به، والمعنى: خلّف لكم عبراً من القرون السالفة، منها تمتعهم بنصيبهم من الدنيا ثمّ فناؤهم، ومنها فسحة خناقهم وطول آمالهم، ثمّ كانت عاقبتهم الهلكة.

[52] ـ رهقه: غشيه، والمنية: الموت.

[53] ـ شذّ بهم عنها: قطّعهم وفرّقهم.

[54] ـ التخرّم: الاستئصال.

[55] ـ أنف الأوان: أوّله.

[56] ـ رجل بضّ: رقيق الجلد.

[57] ـ الحواني: جمع الحانية، وهي العلة التي تحني شطاط الجسد وتمنعه عن الاستقامة.

[58] ـ الغضارة: طيب العيش والسعة والنعمة.

[59] ـ آونة الفناء: جمع أوان، وهو الحين.

[60] ـ الزيال: مصدر زايله مزايلة وزيالاً أي فارقه.

[61] ـ الاُزوف: مصدر أزف أي دنا.

[62] ـ العلز: قلق وخفة وهلع يصيب المريض والمحتضر.

[63] ـ المضض: الوجع.

[64] ـ الجَرَض: الريق يغصّ به.

[65] ـ هتكت: مزقت، والهوام: جمع هامة، وهي الدواب المخوفة كالعقارب والعناكب ونحوها.

[66] ـ النواهك: جمع ناهكة، وهي ما ينهك البدن أي يبليه.

[67] ـ الحدثان: مصدر يدل على الاضطراب بمعنى ما يحدث، والمعالم: ما يُستدلّ به على الطريق.

[68] ـ شحب جسمه: إذا تغيّر.

[69] ـ بضتها: طراوتها.

[70] ـ لا تُستعتب: أي لا تطلب الرضا.

[71] ـ القدّة: الطريقة.

[72] ـ التارات: جمع تارة، وهي المرّة والحين.

[73] ـ الغرار: قلّة النوم، أي أزال التهجد وقيام الليل نومه القليل، فأذهبه بالمرّة.

[74] ـ الظمأ: العطش، والهواجر: نصف النهار عند اشتداد الحر.

[75] ـ ظَلَف: مَنَع.

[76] ـ أوجف: أسرع.

[77] ـ قدّم الخوف لأمانه: أي قدّم خوفه ليأمن.

[78] ـ تنكّب: تجنّب، والمخالج: المشاغل.

[79] ـ الوَضَح: الجادة.

[80] ـ فتله عن كذا: أي ردّه وصرفه.

[81] ـ عمى عليه الأمر: إذا التبس.

[82] ـ أكمش: أسرع.

[83] ـ نظر قُدُماً: أي تقدّم ولم ينثن.

[84] ـ النجي: الذي يساره.

[85] ـ منّى: أي صوّر الأماني كذباً.

[86] ـ استدرج قرينته: أي أدنى على التدريج صاحبه الذي كان قرينه.

[87] ـ استغلق رهينته: أي صارت الرهينة غلقة عنده لا يقدر صاحبها على فكّها، وذلك في الاحتضار وما بعده.

[88] ـ الشغاف: غلاف القلب، وهو هنا استعارة للمشيمة.

[89] ـ المحق: تلف الشيء ونقصانه.

[90] ـ اليافع: الغلام المرتفع.

[91] ـ أقصرت عنه: كففت.

[92] ـ خبط البعير: إذا ضرب بيديه إلى الأرض ومشى لا يتوقّى شيئاً، والسادر: المتحيّر، أو الذي لا يهتمّ ولا يبالي ما صنع.

[93] ـ المتح: الاستقاء، والغرب: الدلو العظيمة.

[94] ـ البدوات: ما يخطر له من الآراء المختلفة، والأرب: الحاجة.

[95] ـ لا يحتسب رزيّة: أي لا يظنّها ولا يفكر في وقوعها.

[96] ـ لا يخشع تقية: أي خوفاً من الله تعالى.

[97] ـ لم يفد عوضاً: أي لم يستفد ثواباً ولم يكتسب.

[98] ـ الغُبّر: البقية.

[99] ـ الجماح: الشره وارتكاب الهوى.

[100] ـ السنن: الطريقة، والمراح: شدّة الفرح والنشاط.

[101] ـ السَّدِر: المتحيّر.

[102] ـ اللدم: الضرب، والتدام النساء: ضربهنّ صدورهنّ في النياحة.

[103] ـ غمرة كارثة: أي شدّة بالغة النهاية.

[104] ـ جذبة مكربة: أي جذب الملك الروح من الجسد.

[105] ـ السوقة: من سياق الروح عند الموت.

[106] ـ أبلس فلان: إذا سكت غمّاً.

[107] ـ الرجيع من الدواب: ما رُدّ من سفر في سفر حتى كلّ، والوصب: المرض.

[108] ـ النضو: الهزيل.

[109] ـ الحفدة: ولد الولد، والأعوان.

[110] ـ حشدة الإخوان: جمع حاشد، وهو المتأهّب المستعد.

[111] ـ الزورة: مصدر زاره، كالزيارة.

[112] ـ النجيّ: المناجي، والبهت: التحيّر والدهشة، وبهتة السؤال: من اضافة الصفة أي سؤال باهت.

[113] ـ الدعة: الراحة، والإزاحة: الإزالة.

[114] ـ أطوار الموتات: كل نوبة من نوب العذاب، كأنّها موت لشدتها.

[115] ـ المحار: المرجع.

[116] ـ قيد قدّه: مقدار قدّه.

[117] ـ المنعفر: الذي قد لامس العَفَر، وهو التراب.

[118] ـ الخناق: الحبل الذي يُخنق به، والمعنى: اعملوا الآن وأنتم مخلّون متمكنون، لم يعقد الحبل في أعناقكم ولم تقبض أرواحكم.

[119] ـ الفينة: الوقت والمهلة.

[120] ـ مهل البقية: أي ليعمل في مهل له في بقية العمر.

[121] ـ أُنف المشيّة: أوّل أوقات الإرادة والإختيار.

[122] ـ الحوبة: الحاجة، أو الإثم، أي انفساح التخلص من الإثم.

[123] ـ الزهوق: الهلاك.

[124] ـ الغائب المنتظر: الموت.