العربية
100%
بَابُ المخُتَْارِ مِنْ خُطب مولانا أمير المؤُمِنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)

الخطبة 85: فيها بيان صفات الحق جلّ جلاله ثمّ عظة الناس بالتقوى والمشورة

[85] ومن خطبة له (عليه السلام) ([1])

[وفيها بيان صفات الحقّ جلّ جلاله ثمّ عظة الناس بالتقوى والمشورة]

قَدْ عَلِمَ السَّرائِرَ، وَخَبَرَ الضَّمائِرَ، لَهُ الاِحَاطَةُ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَالْغَلَبَةُ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَالْقُوَّةُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ. فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُ مِنْكُمْ فِي أَيَّامِ مَهَلِهِ، قَبْلَ إِرْهَاقِ([2]) أَجَلِهِ، وَفِي فَرَاغِهِ قَبْلَ أَوَانِ شُغْلِهِ، وَفِي مُتَنَفَّسِهِ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ بِكَظَمِهِ([3])، وَلْـيُمَهِّدْ لِنَفْسِهِ وَقَدَمِهِ، وَلْيَتَزَوَّدْ مِنْ دَارِ ظَعْنِهِ لِدَارِ إِقَامَتِهِ.

فَاللهَ اللهَ أَيُّهَا النَّاسُ، فِيَما اسْتَحْفَظَكُمْ مِنْ كِتَابِهِ، وَاسْتَوْدَعَكُمْ مِنْ حُقُوقِهِ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثاً، وَلَمْ يَتْرُكْكُمْ سُدًى، وَلَمْ يَدَعْكُمْ فِي جَهَالَةٍ وَلا عَمًى، قَدْ سَمَّى آثَارَكُمْ([4])، وَعَلِمَ أعْمَالَكُمْ، وَكَتَبَ آجَالَكُمْ، وَأَنْزَلَ عَلَيْكُمُ الْكِتَابَ تِبْيَاناً، وَعَمَّرَ فِيكُمْ نَبِيَّهُ أَزْمَاناً؛ حَتَّى أَكْمَلَ لَهُ وَلَكُمْ ـ فِيَما أنْزَلَ مِنْ كِتَابِهِ ـ [دِينَهُ] الَّذِي رَضِيَ لِنَفْسِهِ، وَأَنْهَى إِلَيْكُمْ ـ عَلَى لِسَانِهِ ـ مَحَابَّهُ مِنَ الأعْمَالِ وَمَكَارِهَهُ، وَنَوَاهِيَهُ وَأَوَامِرَهُ، فَأَلقَى إِلَيْكُمُ الْـمَعْذِرَةَ، وَاتَّخَذَ عَلَيْكُمُ الْـحُجَّةَ، وَقَدَّمَ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ، وَأَنْذَرَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيْدٍ.

فَاسْتَدْرِكُوا بَقِيَّةَ أَيَّامِكُمْ، وَاصْبِرُوا لَـهَا أَنْفُسَكُمْ، فَإِنَّهَا قَلِيلٌ فِي كَثِيرِ الأيَّامِ الَّتِى تَكُونُ مِنْكُم فِيهَا الْغَفْلَةُ وَالتَّشَاغُلُ عَنِ الْـمَوْعِظَةِ; وَلا تُرَخِّصُوا([5]) لاَِنْفُسِكُمْ، فَتَذْهَبَ بِكُمُ الرُّخَصُ مَذَاهِبَ الْظَّلَمَةِ، وَلا تُدَاهِنُوا فَيَهْجُمَ بِكُمُ الإِدْهَانُ عَلَى الْـمَعْصِيَةِ.

عِبَادَ اللهِ، إِنَّ أَنْصَحَ النَّاسِ لِنَفْسِهِ أَطْوَعُهُمْ لِرَبِّهِ، وَإِنَّ أَغَشَّهُمْ لِنَفْسِهِ أَعْصَاهُمْ لِرَبِّهِ; وَالْـمَغْبُونُ مَنْ غَبَنَ نَفْسَهُ، وَالْـمَغْبُوطُ مَنْ سَلِمَ لَهُ دِينُهُ، وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ، وَالشَّقِيُّ مَنِ انْخَدَعَ لِـهَوَاهُ وَغُرُورِهِ. وَاعْلَمُوا أَنَّ يَسِيرَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ، وَمُجَالَسَةَ أَهْلِ الْـهَوَى مَنْسَاةٌ لِلاِيمَانِ، وَمَحْضَرَةٌ لِلشَّيْطَانِ. جَانِبُوا الْكَذِبَ فَإِنَّهُ مُجَانِبٌ لِلاِيمَانِ، الصَّادِقُ عَلَى شَفَا مَنْجَاةٍ وَكَرَامَةٍ، وَالْكَاذِبُ عَلَى شَرَفِ مَهْوَاةٍ وَمَهَانَةٍ. ولاَ تَحَاسَدُوا، فَإِنَّ الْـحَسَدَ يَأْكُلُ الاِيمَانَ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْـحَطَبَ، وَلا تَبَاغَضُوا فَإِنَّهَا الْـحَالِقَةُ([6])، وَاعْلَمُوا أَنَّ الأمَلَ يُسْهِي الْعَقْلَ، وَيُنْسِي الذِّكْرَ، فَأَكْذِبُوا الأمَلَ فَإِنَّهُ غُرُورٌ، وَصَاحِبُهُ مَغْرُورٌ.

 


[1] ـ روى المنقري (ت 212) في وقعة صفين: 10 من قوله (عليه السلام): «فإنّه لم يخلقكم سدى ـ إلى قوله ـ : وكتب آجالكم»، وكذلك روى نفس المقطع: الدينوري (ت 282) في الأخبار الطوال: 153، والثقفي (ت 283) في الغارات 1: 156، والقاضي النعمان (ت 363) في شرح الأخبار 1: 369، وروى الإسكافي (ت 220) في المعيار والموازنة: 284 قوله (عليه السلام): «انّ الأمل يسهي العقل»، وروى ابن شعبة (ق 4) كثير من مقاطعها في تحف العقول: 150 ضمن خطبة الديباج، ونثر كثير من جملها الواسطي (ق 6) في عيون الحكم، والآمدي (ق6) في غرره.

[2] ـ أرهقه: غشيه ليهلكه.

[3] ـ الكظم: مخرج النفس.

[4] ـ سمّى آثاركم: يفسّر بتفسيرين، أحدهما: قد بيّن لكم خيرها وشرها، والثاني: قد أعلى مآثركم، أي رفع منازلكم إن أطعتم، وتكون سمّى بمعنى أسمى.

[5] ـ الرخصة: التسهيل في الأمر.

[6] ـ الحالقة: المستأصلة التي تأتي على القوم.