العربية
100%

[102] ومن خطبة له (عليه السلام) ([1])

[في التزهيد في الدنيا]

انْظُرُوا إِلى الدُّنْيَا نَظَرَ الزَّاهِدِينَ فِيهَا، الصَّادِفِينَ عَنْهَا; فَإِنَّهَا وَاللهِ عَمَّا قَلِيلٍ تُزِيلُ الثَّاوِيَ([2]) السَّاكِنَ، وَتَفْجَعُ الْـمُترَفَ الآمِنَ، لا يَرْجِعُ مَا تَوَلَّى مِنْهَا فَأَدْبَرَ، وَلا يُدْرَى مَا هُوَ آتٍ مِنْهَا فَيُنْتَظَرَ. سُرُورُهَا مَشُوبٌ بِالْـحُزْنِ، وَجَلَدُ([3]) الرِّجَالِ فِيهَا إِلَى الضَّعْفِ وَالْوَهْنِ، فَلا يَغُرَّنَّكُمْ كَثْرَةُ مَا يُعْجِبُكُمْ فِيهَا لِقِلَّةِ مَا يَصْحَبُكُمْ مِنْهَا.

رَحِمَ اللهُ امْرَأً تَفَكَّرَ فَاعْتَـبَرَ، واعْتَبَرَ فَأَبْصَرَ، فَكَأَنَّ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنَ الدُّنْيَا عَنْ قَلِيلٍ لَمْ يَكُنْ، وَكَأَنَّ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنَ الآخِرَةِ عَمَّا قَلِيلٍ لَمْ يَزَلْ، وَكُلُّ مَعْدُودٍ مُنْقَضٍ، وَكُلُّ مُتَوَقَّعٍ آتٍ، وَكُلُّ آتٍ قَرِيبٌ دَانٍ.

 

منها: [في صفة العالم]

الْعَالِمُ مَنْ عَرَفَ قَدْرَهُ، وَكَفَى بِالْـمَرءِ جَهْلاً أَلاَّ يَعْرِفَ قَدْرَهُ; وَإِنَّ مِنْ أَبْغَضِ الرِّجَالِ إِلَى اللهِ لَعَبْدٌ وَكَلَهُ اللهُ إِلَى نَفْسِهِ، جَائِرٌ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ، سَائِرٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، إِنْ دُعِيَ إِلَى حَرْثِ الدُّنْيَا عَمِلَ، وَإِلَى حَرْثِ الآخِرَةِ كَسِلَ! كَأَنَّ مَا عَمِلَ لَهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَكَأَنَّ مَا وَنَى([4]) فِيهِ سَاِقطٌ عَنْهُ!

 

منها: [في آخر الزمان]

وَذلِكَ زَمَانٌ لا يَنْجُو فِيـهِ إلَّا كُـلُّ مٌؤْمِنٍ نُوَمَـةٍ ، إِنْ شَهِدَ لَمْ يُعْرَفْ ، وَإِنْ غَـابَ لَمْ يُفْتَقَدْ، أُولَئِكَ مَصَابِيحُ الْـهُدَى، وَأَعْلاَمُ السُّرَى([5])، لَيْسُوا بِالْـمَسَايِيحِ، وَلا الْـمَذَايِيعِ الْبُذُرِ، أُولَئِكَ يَفْتَحُ اللهُ لَـهُمْ أَبْوَابَ رَحْمَتِهِ، وَيَكْشِفُ عَنْهُمْ ضَرَّاءَ نِقْمَتِهِ.

أَيُّهَا النَّاسُ، سَيَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يُكْفَأُ فِيهِ الإسْلاَمُ، كَمَا يُكْفَأُ الإِنَاءُ بِمَا فِيهِ.

أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ قَدْ أَعَاذَكُمْ مِنْ أَنْ يَجُورَ عَلَيْكُمْ، وَلَمْ يُعِذْكُمْ مِنْ أَنْ يَبْتَلِيَكُمْ، وَقَدْ قَالَ جَلَّ مِنْ قَائِلٍ: «إِنَّ فِي ذلِكَ لاَيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَـمُبْتَلِينَ».

أما قوله(عليه السلام): «كُلُّ مؤمِن نُوَمَة» فإنّما أَراد به: الخامِلَ الذِّكر القليل الشرِّ. والمساييح: جمعُ مِسْياحٍ، وهو: الذي يَسِيحُ بينَ الناسِ بالفسادِ والنَّمائمِ. والمذاييعُ: جمعُ مِذْياعٍ، وهو: الذي إذا سَمِع لغيرِه بِفاحشةٍ أذاعَها، ونوَّه بها. والبُذُرُ: جمع بَذُورٍ وهو الذي يكثرُ سَفَهُهُ ويَلْغو مَنْطِقَهُ.

 


[1] ـ لم نعثر على هذه الخطبة كاملةً بل وردت منثورة في مصادر شتى نوردها بحسب التسلسل الزمني:

قال الفراهيدي (ت 175) في كتاب العين 8: 385 وفي الحديث: «انّما ينجو من شرّ ذلك الزمان كل مؤمن نومة، أولئك مصابيح العلم، وأئمة الهدى» وهو وإن لم يذكر القائل لكن يظهر بقرينة سائر المصادر انّه لأميرالمؤمنين(عليه السلام)، وذكر ابن سلام (ت 224) في غريب الحديث 3: 463 وقال: «خير أهل ذلك الزمان كل نومة، أولئك مصابيح الهدى، ليسوا بالمساييح ولا المذاييع البذر». أمّا المروزي (ت 229) في كتاب الفتن: 152 فاقتصر على قوله(عليه السلام): «ينجو في ذلك الزمان كل مؤمن نؤمة» وقال الدارمي (ت255) في سننه 1: 81 «أخبرنا عثمان بن عمر، ثنا عمر بن يزيد، عن أوفى بن دلهم انّه بلغه عن عليّ قال:... ولا ينجو منه إلاّ كل نومة، فأولئك أئمة الهدى، ومصابيح العلم، ليسوا المساييح ولا المذاييع البذر». وروى قريباً منه ابن قتيبة (ت 276) في غريب الحديث 1: 110، وفي تأويل مختلف الحديث: 277 هكذا: «لا ينجو فيه إلاّ كل نومة، أولئك أئمة الهدى ومصابيح العلم، ليسوا بالعجل المذاييع البذر». وذكر ابن خالويه (ت 370) في كتابه ليس من كلام العرب: 313 «قال أمير المؤمنين علي(عليه السلام): خير ذلك الزمان.... المذاييع»، وأنظر الزمخشري (ت 538) في الفائق 3: 635، وابن الأثير (ت 606) في النهاية 5: 130، وابن منظور (ت711) في لسان العرب 12: 596.

أما صدر الخطبة فقد رواها الكليني (ت 329) في الكافي 8: 17 ح 3 عن أحمد بن محمّد الكوفي وهو العاصمي، عن عبدالواحد بن الصواف، عن محمّد بن إسماعيل الهمداني، عن أبي الحسن موسى(عليه السلام) عن عليّ(عليه السلام)، وذلك من قوله: «انظروا في الدنيا نظر الزاهد» الى قوله: «ما هو آت فينتظر» وكذلك ذكرها ابن شعبة (ق 4) في تحف العقول: 202 من دون سند، أما ابن سلامة (ت 454) في دستور معالم الحكم: 48، والواسطي (ق6) في عيون الحكم: 91 ذكراها من الأوّل الى قوله(عليه السلام): «ماهو آتٍ قريب».

[2] ـ الثاوي: المقيم.

[3] ـ الجلد: الصلابة والجلادة.

[4] ـ ونى: ضعف وفتر.

[5] ـ السرى: السير بالليل.