العربية
100%

[120] ومن كلام له (عليه السلام)([1])

[بعد ليلة الهرير]

وقد قام رجل من أصحابه فقال: نهيتنا عن الحكومة ثمّ أمرتنا بها، فما ندري أيّ الأمرين أَرشد؟ فصفق (عليه السلام) إحدى يديه على الأخرى ثمّ قال:

هذا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الْعُقْدَةَ([2])! أَمَا وَاللهِ لَوْ أَنِّي حِينَ أَمَرْتُكُمْ بِما أَمَرْتُكُمْ بِهِ حَمَلْتُكُمْ عَلَى الْـمَكْرُوهِ الَّذِي يَجْعَلُ اللهُ فِيهِ خَيْراً، فَإِنِ اسْتَقَمْتُمْ هَدَيْتُكُمْ وَإِنِ اعْوَجَجْتُمْ قَوَّمْتُكُمْ وَإِنْ أَبَيْتُمْ تَدَارَكْتُكُمْ، لَكَانَتِ الْوُثْقَى، وَلكِنْ بِمَنْ وَإِلَى مَنْ؟ أُرِيدُ أَنْ أُدَاوِيَ بِكُمْ وَأَنْتُمْ دَائي، كَنَاقِشِ الشَّوْكَةِ بِالشَّوْكَةِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ضَلْعَهَا مَعَهَا([3])!

اللَّهُمَّ قَدْ مَلَّتْ أَطِبَّاءُ هذَا الدَّاءِ الدَّوِيِّ([4])، وَكَلَّتِ النَّزَعَةُ([5]) بِأَشْطَانِ الرَّكِيِّ([6])! أَيْنَ الْقَوْمُ الَّذِينَ دُعُوا إِلَى الإِسْلاَمِ فَقَبِلُوهُ، وَقَرَأُوا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ، وَهِيجُوا إِلى الْجِهَادِ فَوَلِـهُوا وَلَهَ اللِّقَاحَ([7]) أَوْلاَدَهَا، وَسَلَبُوا السُّيُوفَ أَغْمَادَهَا، وَأَخَذُوا بِأَطْرَافِ الأَرْضِ زَحْفاً زَحْفاً وَصَفّاً صَفّاً، بَعْضٌ هَلَكَ، وَبَعْضٌ نَجَا.

لاَيُبَشَّرُونَ بِالأَحْيَاءِ، وَلا يُعَزَّوْنَ عَنِ الْـمَوْتَى، مُرْهُ الْعُيُونِ([8]) مِنَ الْبُكَاءِ، خُمْصُ الْبُطُونِ مِنَ الصِّيَامِ، ذُبُلُ الشِّفَاهِ مِنَ الدُّعَاءِ، صُفْرُ الأَلْوَانِ مِنَ السَّهَرِ، عَلَى وُجُوهِهمْ غَبَرَةُ الْـخَاشِعيِنَ، أُولئِكَ إِخْوَاني الذَّاهِبُونَ، فَحَقَّ لَنَا أَنْ نَظْمَأَ إِلَيْهِمْ، وَنَعَضَّ الأَيْدِيَ عَلَى فِرَاقِهمْ!

إِنَّ الشَّيْطَانَ يُسَنِّي([9]) لَكُمْ طُرُقَهُ، وَيُرِيدُ أَنْ يَحُلَّ دِينَكُمْ عُقْدَةً عُقْدَةً، وَيُعْطِيَكُمْ بِالْـجَمَاعَةِ الْفُرْقَةَ، وَبِالْفُرْقَةِ الْفِتْنَةَ؛ فَأَصْدِفُوا عَنْ نَزَغَاتِهِ([10]) وَنَفَثَاتِهِ، وَاقْبَلُوا النَّصِيحَةَ مِمَّنْ أَهْدَاهَا إِلَيْكُمْ، وَاعْقِلوهَا([11]) عَلَى أَنْفُسِكُمْ.

 

 


[1] ـ رواه باختلاف ابن عبد ربه (ت 328) في العقد الفريد 4: 73 كتاب الخطب، والشيخ المفيد (ت 413) في الاختصاص: 155، والطبرسي (ت 560) في الاحتجاج 1: 273، الى قوله(عليه السلام): «بأشطان الركى» واستشهد ابن الأثير (ت 606) في النهاية 4: 322 بقوله(عليه السلام): «خمص البطون من الصيام، مره العيون من البكاء».

[2] ـ العقدة: الرأي الوثيق، ومعناه انّ هذه الحيرة التي أصابتكم إنّما هي جزاء ترككم الرأي الوثيق الذي أمرتكم به من عدم الاصغاء الى خدعة معاوية في رفع المصاحف واللجوء الى التحكيم، وكما قال (عليه السلام) في الخطبة الخامسة والثلاثين: «وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري، ونخلت لكم مخزون رأيي، لو كان يُطاع لقصير أمر، فأبيتم عليَّ اباء المخالفين الجفاة، والمنابذين العصاة». لكنهم عصوه وأجبروه على التحكيم، ولمّا تم التحكيم والمعاهدة أرادوا نقضه، فنهاهم (عليه السلام) عن ذلك لوجوب الوفاء بالعقود والعهود. وليس الأمر كما ظنه ابن أبي الحديد في شرحه7: 292 من نسبة ترك العقدة الى أميرالمؤمنين (عليه السلام)، لأنّه (عليه السلام) كان عالماً بما يؤول إليه الأمر ونصحهم كثيراً، وقال لهم: «هذا أمر ظاهره إيمان وباطنه عدوان، وأوّله رحمة وآخره ندامة، فأقيموا على شأنكم، والزموا طريقتكم، وعضوا على الجهاد بنواجذكم» ولكن لا رأي لمن لا يطاع، فعصوه وأجبروه على التحكيم ثم ندموا وأرادوا منه نقض العهد، فأبى (عليه السلام) وامتنع عن ذلك لحرمة نقض العهد أوّلاً، وثانياً انّه (عليه السلام) رضي بالتحكيم للحفاظ على وحدة الصف أمام العدو، ولكن الآن وقد تمزّقت الصفوف وتم الأمر فلا داعي للإصغاء الى قولهم.

[3] ـ النقش: اخراج الشوكة من الجسم، والضلع: الميل، وهذا مثل يضرب ومعناه: لا تستخرج الشوكة من جسمك بشوكة مثلها، فكما انّ الأُولى نشبت في جسمك فكذلك الثانية.

[4] ـ الدوي: الشديد.

[5] ـ كلّت: أعيت، والنزعة: جمع نازع من نزع الدلو من البئر.

[6] ـ الأشطان: جمع شطن وهو الحبل، والركي: جمع ركية أي البئر.

[7] ـ الوله: شدة الشوق، واللقاح: الناقة الحلوب.

[8] ـ مرهت العين: إذا فسدت بترك الكحل، وهنا جعل(عليه السلام) مره عيونهم من خوف الله تعالى.

[9] ـ يسني: يسهّل.

[10] ـ صدف عن الأمر: انصرف عنه، ونزغات الشيطان: اغراءاته.

[11] ـ اعقلوها: احبسوها والزموها.