العربية
100%

[132] ومن خطبة له (عليه السلام)([1])

[يعظ فيها ويزهّد في الدنيا]

نَحْمَدُهُ عَلَى مَا أَخَذَ وَأَعْطَى، وَعَلَى مَا أَبْلَى وَابْتَلَى([2])، الْبَاطِنُ لِكُلِّ خَفِيَّةٍ، الْـحَاضِرُ لِكُلِّ سَرِيرَةٍ، العَالِمُ بِمَا تُكِنُّ الصُّدُورُ، وَمَا تَخُونُ الْعُيُونُ. وَنَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ غَيْرُهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً نَجِيبُهُ وَبَعِيثُهُ، شَهَادَةً يُوَافِقُ فِيهَا السِّرُّ الاِعْلاَنَ، وَالْقَلْبُ اللِّسَانَ.

 

منها: [في عظة الناس]

فَإِنَّهُ وَاللهِ الْجِدُّ لا اللَّعِبُ، وَالْـحَقُّ لا الْكَذِبُ، وَمَا هُوَ إلَّا الْـمَوْتُ أَسْمَعَ دَاعِيهِ([3])، وَأَعْجَلَ حَادِيهِ، فَلاَ يَغُرَّنَّكَ سَوَادُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِكَ، فَقَدْ رَأَيْتَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِمَّنْ جَمَعَ الْـمَالَ وَحَذِرَ الإِقْلاَلَ، وَأَمِنَ الْعَوَاقِبَ ـ طُولَ أَمَلٍ وَاسْتِبْعَادَ أَجَلٍ ـ كَيْفَ نَزَلَ بِهِ الْـمَوْتُ فَأَزْعَجَهُ عَنْ وَطَنِهِ، وَأَخَذَهُ مِنْ مَأْمَنِهِ، مَحْمُولاً عَلَى أَعْوَادِ الْـمَنَايَا يَتَعَاطَى بِهِ الرِّجَالُ الرِّجَالَ، حَمْلاً عَلَى المَنَاكِبِ وَإِمْسَاكاً بِالأَنَامِلِ.

أَمَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَأْمُلُونَ بَعِيداً، وَيَبْنُونَ مَشِيداً، وَيَجْمَعُونَ كَثِيراً! أَصْبَحَتْ بُيُوتُهُمْ قُبُوراً، وَمَا جَمَعُوا بُوراً، وَصَارَتْ أَمْوَالُهُمْ لِلْوَارِثِينَ، وَأَزْوَاجُهُمْ لِقَوْمٍ آخَرِينَ، لا فِي حَسَنَةٍ يَزِيدُونَ، وَلا مِنْ سَيِّئَةٍ يَسْتَعْتِبُونَ! فَمَنْ أَشْعَرَ التَّقْوَى قَلْبَهُ بَرَّزَ مَهَلُهُ([4])، وَفَازَ عَمَلُهُ.

فَاهْتَبِلُوا هَبَلَهَا([5])، وَاعْمَلُوا لِلْجَنَّةِ عَمَلَهَا، فَإِنَّ الدُّنْيَا لَمْ تُخْلَقْ لَكُمْ دَارَ مُقَامٍ، بَلْ خُلِقَتْ لَكُمْ مَجَازاً لِتَزَوَّدُوا مِنْهَا الأَعْمَالَ إِلَى دَارِ الْقَرَارِ; فَكُونُوا مِنْهَا عَلى أَوْفَازٍ([6])، وَقَرِّبُوا الظُّهُورَ لِلزِّيَالِ([7]).

 


[1] ـ استشهد ابـن الأثير (ت 606) في النهاية 5: 210 بقوله (عليه السلام) : « كونوا منها على أوفاز».

[2] ـ أبلى: أعطى، وابتلى: أصاب بالبلاء.

[3] ـ الموت أسمع داعيه: أي انّ الداعي الى الموت قد أسمع بصوته كل حيّ، فلا حيّ إلاّ وهو يعلم انّه يموت.

[4] ـ برز الرجل على أقرانه: أي فاقهم، والمَهَل: التقدّم في الخير، أي فاق تقدمه الى الخير على تقدم غيره.

[5] ـ اهتبلوا هبلها: اغتنموا غنيمتها.

[6] ـ الأوفاز: جمع وَفْز، العجلة.

[7] ـ الظهور: المراكب، والزّيال: المفارقة.