العربية
100%
بَابُ المخُتَْارِ مِنْ خُطب مولانا أمير المؤُمِنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)

الخطبة 191: يحمدالله ويثني على نبيه ويوصي بالزهد والتقوى

[191] ومن خطبة له (عليه السلام)

[يحمد الله ويثني على نبيه ويوصي بالزهد والتقوى]

الْـحَمْدُ للهِ الْفَاشِي([1]) حَمْدُهُ، وَالْغَالِبِ جُنْدُهُ، وَالْـمُتَعَالِي جَدُّهُ([2]). أحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ التُّوأمِ([3])، وَآلاَئِهِ الْعِظَامِ، الَّذِي عَظُمَ حِلْمُهُ فَعَفَا، وَعَدَلَ فِي كُلِّ مَا قَضَى، وَعَلِمَ مَا يَمْضِي وَمَا مَضَى، مُبْتَدِعِ الْـخَلاَئِقِ بِعِلْمِهِ، وَمُنْشِئِهِمْ بِحُكْمِهِ، بِلاَ اقْتِدَاءٍ وَلا تَعْلِيمٍ، وَلا احْتِذَاءٍ لِـمِثَالِ صَانِعٍ حَكِيمٍ، وَلا إِصابَةِ خَطَأٍ، وَلا حَضْرَةِ مَلَأٍ.

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ابْتَعَثَهُ وَالنَّاسُ يَضْرِبُونَ فِي غَمْرَةٍ([4])، وَيَمُوجُونُ فِي حَيْرَةٍ، قَدْ قَادَتْهُمْ أَزِمَّةُ الْـحَيْنِ([5])، وَاسْتَغْلَقَتْ عَلَى أَفْئِدَتِهِمْ أَقْفَالُ الرَّيْنِ([6]).

أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللهِ بِتَقْوَى اللهِ، فَإِنَّهَا حَقُّ اللهِ عَلَيْكُمْ، وَالْـمُوجِبَةُ عَلَى اللهِ حَقَّكُمْ، وَأَنْ تَسْتَعِينُوا عَلَيْهَا بِاللهِ، وَتَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى اللهِ، فَإِنَّ التَّقْوَى فِي الْيَوْمِ الْـحِرْزُ وَالْـجُنَّةُ، وَفِي غَدٍ الطَّرِيقُ إِلَى الْـجَنَّةِ ، مَسْلَكُهَا وَاضِحٌ ، وَسَالِكُـهَا رَابِحٌ ، وَمُسْتَوْدَعُـهَا حَافِظٌ ، لَمْ تَبْرَحْ عَارِضَةً نَفْسَهَا عَلَى الأُمَمِ الْـمَاضِينَ وَالْغَابِرينَ لِـحَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا غَداً، إِذَا أَعَادَ اللهُ مَا أَبْدَى، وَأَخَذَ مَا أَعْطَى، وَسَأَلَ عَمَّا أَسْدَى([7]).

فَمَا أَقَلَّ مَنْ قَبِلَهَا، وَحَمَلَهَا حَقَّ حَمْلِهَا! أُولئِكَ الأَقَلُّونَ عَدَداً، وَهُمْ أَهْلُ صِفَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ إِذْ يَقُولُ: <وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ>.

فَأَهْطِعُوا([8]) بِأَسْمَاعِكُمْ إِلَيْهَا، وأكظّوا بِجِدِّكُمْ([9]) عَلَيْهَا، وَاعْتَاضُوهَا([10]) مِنْ كُلِّ سَلَفٍ خَلَفاً، وَمِنْ كُلِّ مُخَالِفٍ مُوَافِقاً. أَيْقِظُوا بِهَا نَوْمَكُمْ، واقْطَعُوا بِهَا يَوْمَكُمْ، وَأَشْعِرُوهَا قُلُوبَكُمْ، وَارْحَضُوا([11])بِهَا ذُنُوبَكُمْ، وَدَاوُوا بِهَا الأَسْقَامَ، وَبَادِرُوا بِهَا الْحِمَامَ، وَاعْتَبِرُوا بِمَنْ أَضَاعَهَا، وَلا يَعْتَبِرَنَّ بِكُمْ مَنْ أَطَاعَهَا. أَلاَ وصُونُوهَا وَتَصَوَّنُوا بِهَا، وَكُونُوا عَنِ الدُّنْيَا نُزَّاهاً([12])، وَإِلَى الآخِرَةِ وُلّاهاً([13]).

وَلا تَضَعُوا مَنْ رَفَعَتْهُ التَّقْوَى، وَلا تَرْفَعُوا مَنْ رَفَعَتْهُ الدُّنْيَا، وَلا تَشِيمُوا([14]) بَارِقَهَا، وَلا تَسْمَعُوا نَاطِقَهَا، وَلا تُجِيبُوا نَاعِقَهَا، وَلا تَسْتَضِيئُوا بِإِشْرَاقِهَا، وَلا تُفْتَنُوا بِأَعْلاَقِهَا([15])، فَإِنَّ بَرْقَهَا خَالِبٌ([16])، وَنُطْقَهَا كَاذِبٌ، وَأَمْوَالَـهَا مَحْرُوبَةٌ([17])، وَأَعْلاَقَهَا مَسْلُوبَةٌ.

أَلَا وَهِيَ الْـمُتَصَدِّيَةُ الْعَنُونُ([18])، وَالْـجَامِحَةُ الْـحَرُونُ، وَالْـمَائِنَةُ([19]) الْـخَؤُونُ، وَالْـجَحُودُ الْكَنُودُ([20])، وَالْعَنُودُ الصَّدُودُ([21])، وَالْـحَيُودُ الْـمَيُودُ([22]). حَالُـهَا انْتِقَالٌ، وَوَطْأَتُهَا زِلْزَالٌ، وَعِزُّهَا ذُلٌّ، وَجِدُّهَا هَزْلٌ، وَعُلْوُهَا سُفْلٌ، دَارُ حَرَبٍ([23]) وَسَلَبٍ، وَنَهْبٍ وَعَطَبٍ، أَهْلُهَا عَلَى سَاقٍ وَسِيَاقٍ([24])، وَلَـحَاقٍ وَفِرَاقٍ.

قَدْ تَحَيَّرَتْ مَذَاهِبُهَا، وَأَعْجَزَتْ مَهَارِبُهَا، وَخَابَتْ مَطَالِبُهَا، فَأَسْلَمَتْهُمُ الْـمَعَاقِلُ، وَلَفَظَتْهُمُ([25]) الْـمَنَازِلُ، وَأَعْيَتْهُمُ الْـمَحَاوِلُ([26])، فَمِنْ نَاجٍ مَعْقُورٍ([27])، وَلَـحْمٍ مَجْزُورٍ، وَشِلْوٍ([28]) مَذْبُوحٍ، وَدَمٍ مَسْفُوحٍ، وَعَاضٍّ عَلَى يَدَيْهِ، وَصَافِقٍ لِكَفَّيْهِ، وَمُرْتَفِقٍ بِخَدَّيْهِ([29])، وَزَارٍ عَلَى رَأْيِهِ، وَرَاجِعٍ عَنْ عَزْمِهِ، وَقَدْ أَدْبَرَتِ الْـحِيلَةُ، وَأَقْبَلَتِ الْغِيلَةُ، <وَلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ>.

هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ! قَدْ فَاتَ مَا فَاتَ، وَذَهَبَ مَا ذَهَبَ، ومَضَتِ الدُّنْيَا لِـحَالِ بَالِـهَا([30])، <فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ>.

 


[1] ـ الفاشي: الذائع المنتشر.

[2] ـ جَدُّهُ: أي المتعالي جلاله وعظمته.

[3] ـ التوأم: كناية عن المتواترة، والأصل فيها: الولدان التوأمان.

[4] ـ الغمرة: الجهل والضلال.

[5] ـ الأزمّة: جمع زمام ما تقاد به الدابة، والحين: الهلاك.

[6] ـ الرين: الدنس.

[7] ـ الاسداء: الاعطاء.

[8] ـ أهطعوا: أسرعوا.

[9] ـ المواكظة: الملازمة، بجدّكم: باجتهادكم.

[10] ـ اعتاضوها: خذوها عوضاً.

[11] ـ ارحضوا: اغسلوا.

[12] ـ النزّه: جمع نزيه، وهو المتباعد عمّا يوجب الذم.

[13] ـ ولاّهاً: جمع واله، وهو المشتاق.

[14] ـ الشيم: النظر الى البرق طمعاً في المطر.

[15] ـ الاعلاق: جمع علق، وهو الشيء النفيس.

[16] ـ خالب: أي لا مطر معه.

[17] ـ محروبة: منهوبة.

[18] ـ المتصدية: المتعرّضة، والعنون: المتعرّضة أيضاً.

[19] ـ الحرون: الفرس الذي لا ينقاد. المائنة: الكاذبة.

[20] ـ كند النعمة: كفرها.

[21] ـ العنود: الناقة تعدل عن المرعى وترعى ناحية، والصدود: المعرضة.

[22] ـ الحيود الميود: أي المائلة.

[23] ـ الحَرَب: سلب المال.

[24] ـ على ساق: أي شدّة، وسياق: نزع الروح.

[25] ـ لفظتهم: نبذتهم.

[26] ـ المحاول: المطالب.

[27] ـ معقور: مجروح.

[28] ـ الشلو: العضو.

[29] ـ مرتفق بخدّيه: أي معتمد عليها حزناً وابلاساً.

[30] ـ مضت الدنيا لحال بالها: كلمة تقال فيما انقضى وفرط أمره بما فيه، إن كان خيراً وإن كان شراً.