العربية
100%

[192] ومن خطبة له (عليه السلام) ([1])

ومن الناس من يسمّي هذه الخطبة القاصعة، وهي تتضمن ذم إبليس عَلى استكباره، وتركه السجود لآدم (عليه السلام)، وأنه أوّل من أظهر العصبية وتبع الحمية، وتحذير الناس من سلوك طريقته:

الْـحَمْدُ للهِ الَّذِي لَبِسَ الْعِزَّ وَالْكِبْرِيَاءَ، وَاخْتَارَهُمَا لِنَفْسِهِ دُونَ خَلْقِهِ، وَجَعَلَهُمَا حِمىً([2]) وَحَرَماً عَلَى غَيْرِهِ، وَاصْطَفَاهُمَا لِـجَلَالِهِ. وَجَعَلَ اللَّعْنَةَ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ فِيهِمَا مِنْ عِبَادِهِ، ثُمَّ اخْتَبرَ بِذلِكَ مَلاَئِكَتَهُ الْـمُقَرَّبِينَ، لِيَمِيزَ الْـمُتَوَاضِعيِنَ مِنْهُمْ مِنَ الْـمُسْتَكْبِرِيْنَ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَهُوَ الْعَالِمُ بِمُضْمَرَاتِ القُلُوبِ، وَمَحْجُوبَاتِ الْغُيُوبِ:<إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْـمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ> اعْتَرَضَتْهُ الْـحَمِيَّةُ، فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بِخَلْقِهِ، وَتَعَصَّبَ عَلَيْهِ لِأَصْلِهِ.

فَعَدُوُّ اللهِ إِمَامُ الْـمُتَعَصِّبِينَ، وَسَلَفُ الْـمُسْتَكْبِرِيْنَ، الَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ، وَنازَعَ اللهَ رِدَاءَ الْـجَبَرِيَّةِ، وَادَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّزِ، وَخَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ.

أَلاَ تَرَوْنَ كَيْفَ صَغَّرَهُ اللهُ بِتَكَبُّـرِهِ، وَوَضَعَهُ بِترَفُّعِهِ، فَجَعَلَهُ فِي الدُّنْيَا مَدْحُوراً([3])، وَأَعَدَّ لَهُ فِي الآخِرَةِ سَعِيراً!

وَلَوْ أَرَادَ اللهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ مِنْ نُورٍ يَخْطَفُ الأَبْصَارَ ضِيَاؤُهُ، وَيَبْهَرُ الْعُقُولَ رُوَاؤُهُ([4])، وَطِيبٍ يَأْخُذُ الأَنْفَاسَ عَرْفُهُ([5]) لَفَعَلَ، وَلَوْ فَعَلَ لَظَلَّتْ لَهُ الأَعْنَاقُ خَاضِعَةً، وَلَـخَفَّتِ الْبَلْوَى فِيهِ عَلَى الْـمَلائِكَةِ.  

وَلكِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يَبْتَلِي خَلْقَهُ بِبَعْضِ مَا يَجْهَلُونَ أَصْلَهُ، تَمْيِيزاً بِالإخْتِبَارِ لَـهُمْ، وَنَفْياً لِلاسْتِكبَارِ عَنْهُمْ، وَإِبْعَاداً لِلْخُيَلاَءِ مِنْهُم.

فَاعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اللهِ بِإِبْلِيسَ، إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ الطَّوِيلَ، وَجَهْدَهُ([6]) الْـجَهِيدَ، وَكَانَ قَدْ عَبَدَ اللهَ سِتَّةَ آلاَفِ سَنَةٍ، لا يُدْرَى أمِنْ سِنِي الدُّنْيَا أَمْ سِنِيّ الآخِرَةِ، عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ.

فَمَنْ بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَى اللهِ بِمِثْلِ مَعْصِيَتِهِ، كَلّا، مَا كَانَ اللهُ سُبْحَانَهُ لِيُدْخِلَ الْـجَنَّةَ بَشَراً بِأَمْرٍ أَخْرَجَ بِهِ مِنْهَا مَلَكاً، إِنَّ حُكْمَهُ فِي أَهْلِ السَّماءِ وأَهْلِ الأَرْضِ لَوَاحِدٌ، وَمَا بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ هَوَادَةٌ([7]) فِي إِبَاحَةِ حِمىً حَرَّمَهُ عَلَى الْعَالَـمِيْنَ.

فَاحْذَرُوا [عِبَادَ اللهِ] عَدُوَّ اللهِ أَنْ يُعْدِيَكُمْ بِدَائِهِ، وَأَنْ يَسْتَفِزَّكُمْ([8]) بِخَيْلِهِ وَرَجِلِهِ([9]).

فَلَعَمْرِي لَقَدْ فَوَّقَ لَكُمْ سَهْمَ([10]) الْوَعِيدِ، وَأَغْرَقَ لَكُم بِالنَّزْعِ الشَّدِيدِ([11])، وَرَمَاكُمْ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ، و<قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لاُزَيِّنَنَّ لَـهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ>، قَذْفاً بِغَيْبٍ بَعِيدٍ، وَرَجْماً بِظَنٍّ غَيْرِ مُصِيبٍ، صَدَّقَهُ بِهِ أَبْنَاءُ الْـحَمِيَّةِ، وَإِخْوَانُ الْعَصَبِيَّةِ، وَفُرْسَانُ الْكِبْرِ وَالْـجَاهِلِيَّةِ.

حَتَّى إِذَا انْقَادَتْ لَهُ الْـجَامِحَةُ مِنْكُمْ، وَاسْتَحْكَمَتِ الطَّمَاعِيَّةُ([12]) مِنْهُ فِيكُمْ، فَنَجَمَتِ الْـحَالُ مِنَ السِّرِّ الْـخَفِىِّ إِلَى الأَمْرِ الْـجَلِيِّ، اسْتَفْحَلَ سُلْطَانُهُ عَلَيْكُمْ، وَدَلَفَ([13]) بِجُنُودِهِ نَحْوَكُمْ، فَأَقْحَمُوكُمْ([14]) وَلَـجَاتِ([15]) الذُّلِّ، وَأَحَلُّوكُمْ وَرَطَاتِ الْقَتْلِ، وَأَوْطَأُوكُمْ إِثْخَانَ الْـجِرَاحَةِ([16])، طَعْناً فِي عُيُونِكُم، وَحَزّاً فِي حُلُوقِكُمْ، وَدَقّاً لِـمَنَاخِرِكُمْ، وَقَصْداً لِـمَقَاتِلِكُمْ، وَسَوْقَاً بِخَزَائِمِ([17]) الْقَهْرِ إِلَى النَّارِ الْـمُعَدَّةِ لَكُمْ، فَأَصْبَحَ أَعْظَمَ فِي دِينِكُمْ جَرْحَاً، وَأَوْرَى([18]) فِي دُنْيَاكُمْ قَدْحاً، مِنَ الَّذِينَ أَصْبَحْتُمْ لَـهُمْ مُنَاصِبِينَ، وَعَلَيْهِمْ مُتَأَلِّبِينَ([19]).

فَاجْعَلُوا عَلَيْهِ حَدَّكُمْ، وَلَهُ جَدَّكُمْ([20])، فَلَعَمْرُ اللهِ لَقَدْ فَخَرَ عَلَى أَصْلِكُمْ، وَوَقَعَ في حَسَبِكُمْ، وَدَفَعَ فِي نَسَبِكُمْ، وَأَجْلَبَ بِخَيْلِهِ عَلَيْكُمْ، وَقَصَدَ بِرَجِلِهِ سَبِيلَكُمْ، يَقْتَنِصُونَكُمْ بِكُلِّ مَكَانٍ، وَيَضْرِبُونَ مِنْكُمْ كُلَّ بَنَانٍ([21])، لا تَمْتَنِعُونَ بِحِيلَةٍ، وَلا تَدْفَعُونَ بِعَزِيمَةٍ، فِي حَوْمَةِ([22]) ذُلّ ٍ، وَحَلْقَةِ ضِيقٍ، وَعَرْصَةِ مَوْتٍ، وَجَوْلَةِ بَلَاءٍ.

فَأَطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ نِيرَانِ الْعَصَبِيَّةِ، وَأَحْقَادِ الْـجَاهِلِيَّةِ، وإنَّمَا تِلْكَ الْـحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي الْـمُسْلِمِ مِنْ خَطَرَاتِ الشَّيْطَانِ وَنَخَواتِهِ، وَنَزَغَاتِهِ وَنَفَثَاتِهِ. وَاعْتَمِدُوا وَضْعَ التَّذَلُّلِ عَلَى رُؤُوسِكُمْ، وَإِلْقَاءَ التَّعَزُّزِ تَـحَتْ أَقْدَامِكُمْ، وَخَلْعَ التَّكَبُّرِ مِنْ أَعْنَاقِكُمْ.

وَاتَّخِذُوا التَّوَاضُعَ مَسْلَحَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّكُمْ إِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ، فَإِنَّ لَهُ مِنْ كُلِّ أُمَّة جُنُوداً وأَعْوَاناً، وَرَجِلاً وَفُرْسَاناً، وَلا تَكُونُوا كَالْـمُتَكَبِّرِ عَلَى ابْنِ أُمِّهِ مِنْ غَيْرِ مَا فَضْلٍ جَعَلَهُ اللهُ فِيهِ سِوَى مَا ألْـحَقَتِ الْعَظَمَةُ بِنَفْسِهِ مِنْ عَدَاوَةِ الْـحَسَدِ، وَقَدَحَتِ الْـحَمِيَّةُ فِي قَلْبِهِ مِنْ نَارِ الْغَضَبِ، وَنَفَخَ الشَّيْطَانُ فِي أَنْفِهِ مِنْ رِيحِ الْكِبْرِ الَّذِي أَعْقَبَهُ اللهُ بِهِ النَّدَامَةَ، وَأَلْزَمَهُ آثَامَ الْقَاتِلِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

أَلَا وَقدْ أَمْعَنْتُمْ([23]) فِي الْبَغْيِ، وَأَفْسَدْتُمْ فِي الأَرْضِ، مُصَارَحَةً للهِ([24]) بِالْـمُنَاصَبَةِ، وَمُبَارَزَةً لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْـمُحَارَبَةِ. فَاللهَ اللهَ في كِبْرِ الْـحَمِيَّةِ، وَفَخْرِ الجَاهِلِيَّةِ! فَإِنَّهُ مَلاَقِحُ الشَّنَآنِ([25])، وَمَنَافِخُ الشَّيْطانِ، اللَّاتِي خَدَعَ بِهَا الأُمَمَ الْـمَاضِيَةَ، والْقُرُونَ الْـخَالِيَةَ، حَتَّى أَعْنَقُوا([26])فِي حَنَادِسِ جَهَالَتِهِ، وَمهَاوِي([27]) ضَلاَلَتِهِ، ذُلُلاً عَنْ سِيَاقِهِ، سُلُساً([28]) فِي قِيَادِهِ، أَمْراً تَشَابَهَتِ الْقُلُوبُ فِيهِ، وَتَتَابَعَتِ الْقُرونُ عَلَيْهِ، وَكِبْراً تَضَايَقَتِ الصُّدُورُ بِهِ.

 ألا فَالْـحَذَرَ الْـحَذَرَ مِنْ طَاعَةِ سَادَاتِكُمْ وَكُبرَائِكُمُ الَّذِينَ تَكَبَّرُوا عَنْ حَسَبِهِمْ، وَتَرَفَّعُوا فَوْقَ نَسَبِهِمْ، وَأَلْقَوُا الْـهَجِينَةَ([29]) عَلَى رَبِّهِمْ، وَجَاحَدُوا اللهَ مَا صَنَعَ بِهمْ، مُكَابَرَةً لِقَضَائِهِ، وَمُغَالَبَةً لآلَائِهِ، فَإِنَّهُمْ قَوَاعِدُ أَسَاسِ الْعَصَبِيَّةِ، وَدَعَائِمُ أَرْكَانِ الْفِتْنَةِ، وَسُيُوفُ اعْتِزَاءِ([30]) الْـجَاهِلِيَّةِ.

فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تَكُونُوا لِنِعَمِهِ عَلَيْكُمْ أَضْدَاداً، وَلَا لِفَضْلِهِ عِنْدَكُمْ حُسَّاداً، وَلَا تُطِيعُوا الأَدْعِيَاءَ([31]) الَّذِينَ شَرِبْتُمْ بِصَفْوِكُمْ كَدَرَهُمْ([32])، وَخَلَطْتُمْ بِصِحَّتِكُمْ مَرَضَهُمْ، وَأَدْخَلْتُمْ فِي حَقِّكُمْ بَاطِلَهُمْ، وَهُمْ أَسَاسُ الْفُسُوقِ، وَأَحْلاَسُ الْعُقُوقِ([33])، اتَّخَذَهُمْ إِبْلِيسُ مَطَايَا ضَلاَلٍ، وَجُنْداً بِهمْ يَصُولُ عَلَى النَّاسِ، وَتَرَاجِمَةً يَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، اسْتِرَاقاً لِعُقُولِكُمْ، وَدُخُولاً فِي عُيُونِكُمْ، وَنَفْثاً فِي أَسْـمَاعِكُمْ، فَجَعَلَكُمْ مَرْمَى نَبْلِهِ، وَمَوْطِىءَ قَدَمِهِ، وَمأْخَذَ يَدِهِ.

فَاعْتَبِرُوا بِمَا أَصَابَ الأُمَمَ الْـمُسْتَكْبرِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ بَأْسِ اللهِ وَصَوْلاَتِهِ، وَوَقَائِعِهِ وَمَثُلاَتِهِ([34]) ، وَاتَّعِظُوا بِمَثَاوِي خُدُودِهِمْ([35])، وَمَصَارِعِ جُنُوبِهِمْ([36])، وَاسْتَعِيذُوا بِاللهِ مِنْ لَوَاقِحِ الْكِبْرِ([37])، كَمَا تَسْتَعِيذُونَهُ مِنْ طَوَارِقِ الدَّهْرِ([38])، فَلَوْ رَخَّصَ اللهُ فِي الْكِبْرِ لأَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ لَرَخَّصَ فِيهِ لِخَاصَّةِ أَنبِيَائِهِ، وَلكِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَرَّهَ إِلَيْهِمُ التَّكَابُرَ، وَرَضِيَ لَـهُمُ التَّوَاضُعَ، فَأَلْصَقُوا بِالأَرْضِ خُدُودَهُمْ، وَعَفَّرُوا فِي التُّرَابِ وُجُوهَهُمْ، وَخَفَضُوا أَجْنِحَتَهُمْ لِلْمُؤمِنِينَ، وَكَانُوا قَوْماً مُسْتَضْعَفِينَ، قَدِ اخْتَبَرَهُمُ اللهُ بالْـمَخْمَصَةِ، وَابْتَلَاهُمْ بِالْـمَجْهَدَةِ، وَامْتَحَنَهُمْ بِالْـمَخَاوِفِ، وَمَخَضَهُمْ بِالْـمَكَارِهِ، فَلاَ تَعْتَبِرُوا الرِّضَا وَالسُّخْطَ بِالْـمَالِ وَالْوَلَدِ جَهْلاً بِمَوَاقِعِ الْفِتْنَةِ، وَالإِخْتِبَارِ فِي مَوَاضِعِ الْغِنَى وَالاِفْتِقَارِ، فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ :<أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَـهُمْ فِي الْـخَيْرَاتِ بَلْ لَايَشْعُرُونَ>، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهْ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ الْـمُسْتَكْبرِينَ فِي أَنْفُسِهمْ بِأَوْلِيَائِهِ الْـمُسْتَضْعَفِينَ فِي أَعْيُنِهِمْ.

وَلَقَدْ دَخَلَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ وَمَعَهُ أَخُوهُ هَارُونُ(عليهما السلام) عَلَى فِرْعَوْنَ، وَعَلَيْهِمَا مَدَارِعُ الصُّوفِ، وَبِأَيْدِيهِمَا الْعِصِيُّ، فَشَرَطَا لَهُ ـ إِنْ أَسْلَمَ ـ بَقَاءَ مُلْكِهِ، وَدَوامَ عِزِّهِ، فَقَالَ: أَلاَ تَعْجَبُونَ مِنْ هذَيْنِ يَشْرِطَانِ لِي دَوَامَ الْعِزِّ، وَبَقَاءَ الْـمُلْكِ، وَهُمَا بِمَا تَرَوْنَ مِنْ حَالِ الْفَقْرِ وَالذُّلِّ، فَهَلاَّ أُلْقِيَ عَلَيْهِمَا أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ! إِعْظَاماً لِلذَّهَبِ وَجَمْعِهِ، وَاحْتِقَاراً لِلصُّوفِ وَلُبْسِهِ! وَلَوْ أَرَادَ اللهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْبِيَائِهِ حَيْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لَـهُمْ كُنُوزَ الذِّهْبَانِ، وَمَعَادِنَ الْعِقْيَانِ([39])، وَمَغَارِسَ الجِنَانِ، وَأَنْ يَحْشُرَ مَعَهُمْ طَيْرَ السَّماءِ وَوُحُوشَ الأَرَضِينَ لَفَعَلَ، وَلَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ الْبَلاَءُ، وَبَطَلَ الْـجَزَاءُ، وَاضْمَحَلَّ الأَنْبَاءُ، وَلَـمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِينَ أُجُورُ الْـمُبْتَلِينَ، وَلا اسْتَحَقَّ الْـمُؤمِنُونَ ثَوَابَ الْـمُحْسِنِينَ، وَلا لَزِمَتِ الأَسْمَاءُ مَعَانِيَهَا، وَلكِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِي قُوَّةٍ فِي عَزَائِمِهِمْ، وَضَعَفَةً فِيَما تَرَى الأَعْيُنُ مِنْ حَالاَتِهِمْ، مَعَ قَنَاعَةٍ تَمْلأُ الْقُلُوبَ وَالْعُيُونَ غِنىً، وَخَصَاصَةٍ تَمْلَأُ الأَبْصَارَ وَالأَسْمَاعَ أَذىً.

وَلَوْ كَانَتِ الأَنْبِيَاءُ أَهْلَ قُوَّةٍ لا تُرَامُ، وَعِزَّةٍ لا تُضَامُ، وَمُلْكٍ تُمَدُّ نَحْوَهُ أَعْنَاقُ الرِّجَالِ، وَتُشَدُّ إِلَيْهِ عُقَدُ الرِّحَالِ، لَكَانَ ذلِكَ أَهْوَنَ عَلَى الْـخَلْقِ فِي الاِعتِبَارِ، وَأَبْعَدَ لَـهُمْ مِنَ الاِسْتِكْبَارِ، وَلآمَنُوا عَنْ رَهْبَةٍ قَاهِرَةٍ لَـهُمْ، أَوْ رَغْبَةٍ مَائِلَةٍ بِهِمْ، فَكَانَتِ النِّيَّاتُ مُشْتَرَكَةً، وَالْـحَسَنَاتُ مُقْتَسَمَةً.

وَلكِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الاِتِّبَاعُ لِرُسُلِهِ، وَالتَّصْدِيقُ بِكُتُبِهِ، وَالْـخُشُوعُ لِوَجْهِهِ، وَالاسْتِكَانَةُ لأَمْرِهِ، وَالاسْتِسْلَامُ لِطَاعَتِهِ، أُمُوراً لَهُ خَاصَّةً، لا تَشُوبُهَا مِنْ غَيْرِهَا شَائِبَةٌ، وَكُلَّمَا كَانَتِ الْبَلْوَى وَالاِخْتِبَارُ أَعْظَمَ كَانَتِ الْـمَثُوبَةُ وَالْـجَزَاءُ أَجْزَلَ.

 ألا تَرَوْنَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ اخْتَبَرَ الأَوَّلِينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ صَلَّى اللهِ عَلَيْهِ، إِلَى الآخِرِينَ مِنْ هذا الْعَالَمِ، بِأَحْجَارٍ لا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَا تُبْصِرُ وَلا تَسْمَعُ، فَجَعَلَهَا بَيْتَهُ الْـحَرَامَ الَّذِي جَعَلَهُ لِلنَّاسِ قِيَاماً.

ثُمَّ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ([40]) بِقَاعِ الأَرْضِ حَجَراً، وَأَقَلِّ نَتَائِقِ الدُّنْيَا مَدَراً([41])، وَأَضْيَقِ بُطُونِ الأَوْدِيَةِ قُطْراً، بَيْنَ جِبَالٍ خَشِنَةٍ، وَرِمَالٍ دَمِثَةٍ([42])، وَعُيُونٍ وَشِلَةٍ([43])، وَقُرًى مُنْقَطِعَةٍ، لا يَزْكُو بِهَا خُفٌّ وَلا حَافِرٌ وَلا ظِلْفٌ.

ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ وَوَلَدَهُ أَنْ يَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ([44]) نَحْوَهُ، فَصَارَ مَثَابَةً لِمُنْتَجَعِ([45]) أَسْفَارِهِمْ، وَغَايَةً لِـمُلْقَى رِحَالِهِمْ، تَهْوِي إِلَيْهِ ثِمَارُ الأَفْئِدَةِ([46]) مِنْ مَفَاوِزَ([47]) قِفَارٍ سَحِيقَةٍ([48])، وَمَهَاوِي فِجَاجٍ([49]) عَمِيقَةٍ، وَجَزَائِر بِحَارٍ مُنْقَطِعَةٍ، حَتَّى يَهُزُّوا مَنَاكِبَهُمْ ذُلُلاً يُهَلِّلُونَ للهِ حَوْلَهُ، وَيَرْمُلُونَ([50]) عَلَى أَقْدَامِهِمْ شُعْثاً غُبْراً([51]) لَهُ، قَدْ نَبَذُوا السَّرَابِيلَ([52]) وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَشَوَّهُوا([53]) بِإِعْفَاءِ الشُّعُورِ مَحَاسِنَ خَلْقِهِمُ، ابْتِلاَءً عَظِيماً، وَامْتِحَاناً شَدِيْدَاً، وَاخْتِبَاراً مُبِيناً، وَتَمْحِيصاً بَلِيغاً، جَعَلَهُ اللهُ تَعَالَى سَبَباً لِرَحْمَتِهِ، وَوُصْلَةً إِلَى جَنَّتِهِ.

وَلَوْ أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَضَعَ بَيْتَهُ الْـحَرَامَ، وَمَشَاعِرَهُ الْعِظَامَ، بَيْنَ جَنَّاتٍ وَأَنْهَارٍ، وَسَهْلٍ وَقَرَارٍ([54])، جَمَّ([55]) الأَشْجَارِ، دَانِيَ الثِّمارِ، مُلْتَفَّ الْبُنَى([56])، مُتَّصِلَ الْقُرَى، بَيْنَ بُرَّةٍ([57]) سَمْرَاءَ، وَرَوْضَةٍ خَضْرَاءَ، وَأَرْيَافٍ([58]) مُحْدِقَةٍ، وَعِرَاصٍ مُغْدِقَةٍ([59])، وَزُرُوعٍ نَاضِرَةٍ، وَطُرُقٍ عَامِرَةٍ، لَكَانَ قَدْ صَغُرَ قَدْرُ الْـجَزَاءِ عَلَى حَسَبِ ضَعْفِ الْبَلاَءِ.

وَلَوْ كَانَتِ الأسَاسُ الْـمَحْمُولُ عَلَيْهَا، وَالأَحْجَارُ الْـمَرْفُوعُ بِهَا، بَيْنَ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ، وَيَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، وَنُورٍ وَضِيَاءٍ، لَخَفَّفَ ذلِكَ مُضَارَعَةَ الشَّكِّ([60]) فِي الصُّدُورِ، وَلَوَضَعَ مُجَاهَدَةَ إبْلِيسَ عَنِ الْقُلُوبِ، وَلَنَفَى مُعْتَلَجَ([61]) الرَّيْبِ مِنَ النَّاسِ. وَلكِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِأَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ، وَيَتَعَبَّدُهُمْ بِأَلْوَانِ الْـمَجَاهِدِ، وَيَبْتَلِيهِمْ بِضُرُوبِ الْـمَكَارِهِ، إِخْرَاجاً لِلتَّكَبُّرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَإِسْكَاناً لِلتَّذَلُّلِ فِي نُفُوسِهمْ، وَلِيَجْعَل ذلِكَ أَبْوَاباً فُتُحاً إِلَى فَضْلِهِ، وَأَسْبَاباً ذُلُلاً لِعَفْوِهِ.

فَاللهَ اللهَ فِي عَاجِلِ الْبَغْيِ، وَآجِلِ وَخَامَةِ الظُّلْمِ، وَسُوءِ عَاقِبَةِ الْكِبْرِ، فَإنَّهَا مَصْيَدَةُ إِبْلِيسَ الْعُظْمَى، وَمَكِيدَتُهُ الْكُبْرَى، الَّتِي تُسَاوِرُ([62]) قُلُوبَ الرِّجَالِ مُسَاوَرَةَ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ، فَمَا تُكْدِي([63]) أَبَداً، وَلا تُشْوِي([64]) أَحَداً، لا عَالِماً لِعِلْمِهِ، وَلا مُقِلَّاً في طِمْرِهِ([65]).

وَعَنْ ذلِكَ مَا حَرَسَ اللهُ عِبَادَهُ الْـمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتِ، وَمُجَاهَدَةِ الصِّيَامِ فِي الأَيَّامِ الْـمَفْرُوضَاتِ، تَسْكِيناً لأَطْرَافِهِمْ([66])، وَتَخْشِيعاً لِأَبْصَارِهمْ، وَتَذْلِيلاً لِنُفُوسِهِمْ، وَتَخْفِيضاً لِقُلُوبِهِمْ، وَإِذْهَاباً لِلْخُيَلاَءِ عَنْهُمْ، لِما فِي ذلِكَ مِنْ تَعْفِيرِ عَتَائِقِ الْوُجُوهِ([67]) بِالتُّرَابِ تَوَاضُعاً، وَالْتِصَاقِ كَرَائِمِ الْـجَوَارِحِ بِالأَرْضِ تَصَاغُراً، وَلُـحُوقِ الْبُطُونِ بِالْـمُتونِ([68]) مِنَ الصِّيَامِ تَذَلُّلاً، مَعَ مَا فِي الزَّكَاةِ مِنْ صَرْفِ ثَمَرَاتِ الأَرْضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ الْـمَسْكَنَةِ وَالْفَقْرِ. انْظُرُوا إِلَى مَا فِي هذِهِ الأَفْعَالِ مِنْ قَمْعِ نَوَاجِمِ([69]) الْفَخْرِ، وَقَدْعِ([70]) طَوَالِعِ الْكِبْرِ!

وَلَقَدْ نَظَرْتُ فَمَا وَجَدْتُ أَحَداً مِنَ الْعَالَـمِينَ يَتَعَصَّبُ لِشَيْءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ إِلَّا عَنْ عِلَّةٍ تَحْتَمِلُ تَمْوِيهَ الْـجُهَلَاءِ، أَوْ حُجَّةٍ تَلِيطُ([71]) بِعُقُولِ السُّفَهَاءِ غَيْرَكُمْ، فَإِنَّكُمْ تَتَعَصَّبُونَ لِأَمْرٍ مَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ وَلا عِلَّةٌ.

أَمَّا إِبْلِيسُ فَتَعَصَّبَ عَلَى آدَمَ لِأَصْلِهِ، وَطَعَنَ عَلَيْهِ فِي خِلْقَتِهِ، فَقَالَ: أَنَا نَارِيٌّ وَأَنْتَ طِينِيٌّ. وَأَمَّا الأَغْنِيَاءُ مِنْ مُترَفَةِ([72]) الأُمَمِ، فَتَعَصَّبُوا لآثَارِ مَوَاقِعِ النِّعَمِ، فَـ<قَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ​>.

فَإنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ، فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُكُمْ لِـمَكَارِمِ الْـخِصَالِ، وَمَحَامِدِ الأَفْعَالِ، وَمَحَاسِنِ الأُمُورِ، الَّتِي تَفَاضَلَتْ فِيهَا الْـمُجَدَاءُ وَالنُّجَدَاءُ مِنْ بُيُوتَاتِ الْعَرَبِ وَيَعَاسِيبِ([73]) الْقَبَائِلِ، بِالأَخْلاَقِ الرَّغِيبَةِ([74])، وَالأَحْلاَمِ([75]) الْعَظِيمَةِ، وَالأَخْطَارِ الْـجَلِيلَةِ، وَالآثَارِ الَمحْمُودَةِ.

فَتَعَصَّبُوا لِخِلاَلِ الْـحَمْدِ مِنَ الْـحِفْظِ لِلْجِوَارِ([76])، وَالْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ([77])، وَالطَّاعَةِ لِلْبِرِّ، وَالْـمَعْصِيَةِ لِلْكِبْرِ، وَالأَخْذِ بِالْفَضْلِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْبَغْيِ، وَالإِعْظَامِ لِلْقَتْلِ، وَالإِنْصَافِ لِلْخَلْقِ، وَالْكَظْمِ لِلْغَيْظِ، وَاجْتِنَابِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ.

واحْذَرُوا مَا نَزَلَ بِالأُمَمِ قَبْلَكُمْ مِنَ الْـمَثُلاَتِ([78]) بِسُوءِ الأَفْعَالِ، وَذَمِيمِ الأَعْمَالِ، فَتَذَكَّرُوا فِي الْـخَيْرِ وَالشَّرِّ أَحْوَالَـهُمْ، وَاحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَـهُمْ.

فَإِذَا تَفَكَّرْتُمْ فِي تَفَاوُتِ حَالَيْهِمْ([79])، فَالْزَمُوا كُلَّ أَمْرٍ لَزِمَتِ الْعِزَّةُ بِهِ حَالَـهُمْ، وَزَاحَتِ([80]) الأَعْدَاءُ لَهُ عَنْهُمْ، وَمُدَّتِ الْعَافِيَةُ فِيهِ بِهِمْ، وَانْقَادَتِ النِّعْمَةُ لَهُ مَعَهُمْ، وَوَصَلَتِ الْكَرَامَةُ عَلَيْهِ حَبْلَهُم: مِنَ الاجْتِنَابِ لِلْفُرْقَةِ، وَاللُّزُومِ لِلأُلْفَةِ، وَالتَّحَاضِّ عَلَيْهَا، وَالتَّوَاصِي بِهَا. وَاجْتَنِبُوا كُلَّ أَمْرٍ كَسَرَ فِقْرَتَهُمْ([81])، وَأَوْهَنَ مُنَّتَهُمْ([82]): مِنْ تَضَاغُنِ الْقُلُوبِ، وَتَشَاحُنِ الصُّدُورِ، وتَدَابُرِ النُّفُوسِ، وَتَخَاذُلِ الأَيْدِي.

وَتَدَبَّرُوا أَحْوَالَ الْـمَاضِينَ مِنَ الْـمُؤمِنِينَ قَبْلَكُمْ، كَيْفَ كَانُوا فِي حَالِ التـَّمحِيصِ وَالْبَلاَءِ. أَلَمْ يَكُونُوا أَثْقَلَ الْـخَلاَئِقِ أَعْبَاءً، وَأَجْهَدَ الْعِبَادِ بَلاَءً، وَأَضْيَقَ أَهْلِ الدُّنْيَا حَالاً. اتَّخَذَتْهُمُ الْفَراعِنَةُ عَبِيداً فَسَامُوهُم سُوءَ الْعَذَابِ، وَجَرَّعُوهُمُ الْـمُرَارَ، فَلَمْ تَبْرَحِ الْـحَالُ بِهِمْ فِي ذُلِّ الْـهَلَكَةِ وَقَهْرِ الْغَلَبَةِ، لا يَجِدُونَ حِيلَةً فِي امْتِنَاعٍ، وَلا سَبِيلاً إِلَى دِفَاعٍ، حَتَّى إِذَا رَأَى اللهُ جِدَّ الصَّبْرِ مِنْهُمْ عَلَى الأَذَى فِي مَحَبَّتِهِ، وَالاحْتِمَالَ لِلْمَكْرُوهِ مِنْ خَوْفِهِ، جَعَلَ لَـهُمْ مِنْ مَضَايِقِ الْبَلاَءِ فَرَجاً، فَأَبْدَلَـهُمُ الْعِزَّ مَكَانَ الذُّلِّ، وَالأَمْنَ مَكَانَ الْـخَوْفِ، فَصَارُوا مُلُوكاً حُكَّاماً، وأَئِمَّةً أَعْلاَماً، وَبَلَغَتِ الْكَرَامَةُ مِنَ اللهِ لَـهُمْ مَا لَمْ تَذْهَبِ الآمَالُ إِلَيْهِ بِهِمْ.

فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانُوا حَيْثُ كَانَتِ الأَمْلاَءُ([83]) مُجْتَمِعَةً، وَالأَهْوَاءُ مُؤْتَلِفَةً، وَالْقُلُوبُ مُعْتَدِلَةً، وَالأَيْدِي مُترَادِفَةً([84])، وَالسُّيُوفُ مُتَنَاصِرَةً، وَالْبَصَائِرُ نَافِذَةً، وَالْعَزَائِمُ وَاحِدَةً، أَلَمْ يَكُونُوا أَرْبَاباً فِي أَقْطَارِ الأَرَضِينَ، وَمُلُوكاً عَلَى رِقَابِ الْعَالَـمِينَ!

فَانْظُرُوا إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ فِي آخِرِ أُمُورِهِمْ، حِينَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ، وَتَشَتَّتَتِ الأُلْفَةُ، وَاخْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ وَالأَفْئِدَةُ، وَتَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِينَ، وَتَفَرَّقُوا مُتَحَارِبِينَ، قَدْ خَلَعَ اللهُ عَنْهُمْ لِبَاسَ كَرَامَتِهِ، وَسَلَبَهُمْ غَضَارَةَ([85]) نِعْمَتِهِ، وَبَقَّى قَصَصَ أَخْبَارِهِمْ فِيكُمْ عِبَرَاً لِلْمُعْتَبرِينَ مِنْكُمْ.

فَاعْتَبِرُوا بِحَالِ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَبَنِي إِسْحَاقَ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَمَا أَشَدَّ اعْتِدَالَ([86]) الأَحْوَالِ، وَأَقْرَبَ اشْتِبَاهَ([87]) الأَمْثَالِ! تَأَمَّلُوا أَمْرَهُمْ فِي حَالِ تَشَتُّتِهِمْ وَتَفَرُّقِهِمْ، لَيَالِيَ كَانَتِ الأَكَاسِرَةُ وَالْقَيَاصِرَةُ أَرْبَاباً لَـهُمْ، يَحْتَازُونَهُمْ عَنْ رِيفِ الآفَاقِ([88])، وَبَحْرِ الْعِرَاقِ، وَخُضْرَةِ الدُّنْيَا إِلَى مَنَابِتِ الشِّيحِ([89])، وَمَهَافِي([90]) الرِّيحِ، وَنَكَدِ الْـمَعَاشِ، فَترَكُوهُمْ عَالَةً مَسَاكِينَ إِخْوَانَ دَبَرٍ وَوَبَرٍ([91])، أَذَلَّ الأُمَمِ دَاراً، وَأَجْدَبَهُمْ قَرَاراً، لا يَأْوُونَ إِلَى جَنَاحِ دَعْوَةٍ يَعْتَصِمُونَ بِهَا، وَلا إِلَى ظِلِّ أُلْفَةٍ يَعْتَمِدُونَ عَلَى عِزِّهَا، فَالأَحْوَالُ مُضْطَرِبَةٌ، وَالأَيْدِي مُخْتَلِفَةٌ، وَالْكَثْرَةُ مُتَفَرِّقَةٌ، فِي بَلاَءِ أَزْلٍ([92])، وأَطْبَاقِ جَهْلٍ! ([93]) مِنْ بَنَاتٍ مَوْءُودَةٍ([94])، وَأَصْنَامٍ مَعْبُودَةٍ، وَأَرْحَامٍ مَقْطُوعَةٍ، وَغَارَاتٍ مَشْنُونَةٍ([95]).

فَانْظُرُوا إِلَى مَوَاقِعِ نِعَمِ اللهِ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ حِينَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولاً، فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طَاعَتَهُمْ، وَجَمَعَ عَلَى دَعْوَتِهِ أُلْفَتَهُمْ، كَيْفَ نَشَرَتِ النِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ جَنَاحَ كَرَامَتِهَا، وَأَسَالَتْ لَـهُمْ جَدَاوِلَ نَعِيمِهَا، وَالْتَفَّتِ الْـمِلَّةُ بِهِمْ فِي عَوَائِدِ([96]) بَرَكَتِهَا، فَأَصْبَحُوا فِي نِعْمَتِهَا غَرِقِينَ، وَفِي خُضْرَةِ عَيْشِهَا فَكِهِينَ، قَدْ تَرَبَّعَتِ([97]) الأُمُورُ بِهِمْ فِي ظِلِّ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ، وَآوَتْهُمُ الْـحَالُ إِلَى كَنَفِ عِزٍّ غَالِبٍ، وَتَعَطَّفَتِ الأُمُورُ عَلَيْهِمْ فِي ذُرَى مُلْكٍ ثَابِتٍ، فَهُمْ حُكَّامٌ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَمُلُوكٌ فِي أَطْرَافِ الأَرَضِينَ، يَمْلِكُونَ الأُمُورَ عَلَى مَنْ كَانَ يَمْلِكُهَا عَلَيْهِمْ، وَيُمْضُونَ الأَحْكَامَ فِيمَنْ كَانَ يُمْضِيهَا فِيهِمْ! لا تُغْمَزُ لَـهُمْ قَنَاةٌ([98])، وَلا تُقْرَعُ لَـهُمْ صَفَاةٌ([99])!

أَلاَ وَإنَّكُمْ قَد نَفَضْتُمْ أَيْدِيَكُمْ مِنْ حَبْلِ الطَّاعَةِ، وَثَلَمْتُمْ([100]) حِصْنَ اللهِ الْـمضْرُوبَ عَلَيْكُمْ، بِأَحْكَامِ الْـجَاهِلِيَّةِ، وَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَدِ امْتَنَّ عَلَى جَمَاعَةِ هذِهِ الأُمَّةِ فِيَما عَقَدَ بَيْنَهُمْ مِنْ حَبْلِ هذِهِ الأُلْفَةِ الَّتِي يَنْتَقِلُونَ فِي ظِلِّهَا، وَيَأْوُونَ إلَى كَنَفِهَا، بِنِعْمَةٍ لا يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنَ الْـمَخْلُوقِينَ لَـهَا قِيمَةً، لِأَنَّهَا أَرْجَحُ مِنْ كُلِّ ثَمَنٍ، وَأَجَلُّ مِنْ كُلِّ خَطَرٍ.

وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَعْرَاباً، وَبَعْدَ الْـمُوَالاَةِ أحْزَاباً، مَا تَتَعَلَّقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ إِلَّا بِاسْمِهِ، وَلا تَعْرِفُونَ مِنَ الإِيمَانِ إِلَّا رَسْمَهُ، تَقُولُونَ: النَّارَ وَلا الْعَارَ! كَأَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُكْفِئُوا الإِسْلاَمَ عَلَى وَجْهِهِ، انْتِهَاكاً لِـحَرِيمِهِ، وَنَقْضَاً لِـمِيثَاقِهِ الَّذِي وَضَعَهُ اللهُ لَكُمْ حَرَماً فِي أَرْضِهِ، وأَمْناً بَيْنَ خَلْقِهِ.

وإِنَّكُمْ إِنْ لَـجَأْتُمْ إِلَى غَيْرِهِ حَـارَبَكُمْ أَهْـلُ الْكُفْرِ ، ثُمَّ لا جِبْرَائِيلُ وَلا مِيـكَائِيلُ وَلا مُهَاجِرُونَ وَلا أَنْصَارٌ يَنْصُرُونَكُمْ إِلَّا الْـمُقَارَعَةَ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَكُمْ. وَإِنَّ عِنْدَكُمُ الأَمْثَالَ مِنْ بَأْسِ اللهِ تَعَالَى وَقَوَارِعِهِ، وَأَيَّامِهِ وَوَقَائِعِهِ، فَلاَ تَسْتَبْطِئُوا وَعِيدَهُ جَهْلاً بِأَخْذِهِ، وَتَهَاوُناً بِبَطْشِهِ، وَيأْساً مِنْ بَأْسِهِ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَلْعَنِ الْقَرْنَ الْـمَاضِيَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ إِلَّا لِتَرْكِهِمُ الأَمْرَ بِالْـمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْـمُنكَرِ، فَلَعَنَ السُّفَهَاءَ لِرُكُوبِ الْـمَعَاصِي، وَالْـحُلَمَاءَ لِتَرْكِ التَّنَاهِيْ!

أَلَا وَقَدْ قَطَعْتُمْ قَيْدَ الإِسْلاَمِ، وَعَطَّلْتُمْ حُدُودَهُ، وَأَمَتُّمْ أَحْكَامَهُ. أَلاَ وَقَدْ أَمَرَنِيَ اللهُ بِقِتَالِ أَهْلِ الْبَغْي وَالنَّكْثِ وَالْفَسَادِ فِي الأَرْضِ، فَأَمَّا النَّاكِثُونَ فَقَدْ قَاتَلْتُ، وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَقَدْ جَاهَدْتُ، وَأَمَّا الـمَارِقَةُ فَقَدْ دَوَّخْتُ([101])، وَأَمَّا شَيْطَانُ الرَّدْهَةِ([102]) فَقَدْ كُفِيتُهُ بِصَعْقَةٍ([103]) سُمِعَتْ لَـهَا وَجْبَةُ قَلْبِهِ([104]) وَرَجَّةُ صَدْرِهِ، وَبَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَلَئِنْ أَذِنَ اللهُ فِي الْكَرَّةِ عَلَيْهِمْ لَأُدِيلَنَّ مِنْهُمْ([105]) إِلَّا مَا يَتَشَذَّرُ([106]) فِي أَطْرَافِ الأَرْضِ تَشَذُّراً! أَنَا وَضَعْتُ بِكَلَاكِلِ([107]) الْعَرَبِ، وَكَسَرْتُ نَوَاجِمَ([108]) قُرُونِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ.

وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ، وَالْـمَنْزِلَةِ الْـخَصِيصَةِ: وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَأَنَا وَلِيدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ، وَيَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ، وَيُمِسُّنِي جَسَدَهُ، وَيُشِمُّنِي عَرْفَهُ([109])، وَكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ، وَمَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ، وَلا خَطْلَةً([110]) فِي فِعْلٍ. وَلَقَدْ قَرَنَ اللهُ تَعَالَى بِهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلاَئِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْـمَكَارِمِ، وَمَحَاسِنَ أَخْلاَقِ الْعَالَمِ، لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ، وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ([111]) أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لي فِي كُلِّ يَوْمٍ عَلَماً مِنْ أخْلاقِهِ، وَيَأْمُرُني بِالاقْتِدَاءِ بِهِ.

وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ، فَأَرَاهُ وَلا يَرَاهُ غَيْرِي، وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الإِسْلاَمِ غَيْرَ رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ.

وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا هذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ: «هذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وَتَرَى مَا أَرَى، إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ، وَلكِنَّكَ وَزِيرٌ، وَإِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ»([112]).

وَلَقَدْ كُنْتُ مَعَهُ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) لَـمَّا أَتَاهُ الـمَلَأُ مِنْ قُريْشٍ، فَقَالُوا لَهُ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكُ قَدِ ادَّعَيْتَ عَظِيماً لَمْ يَدَّعِهِ آبَاؤُكَ وَلا أحَدٌ مِن بَيْتِكَ، وَنَحْنُ نَسَأَلُكَ أَمْراً إِنْ أَجَبْتَنَا إِلَيْهِ وَأَرَيْتَنَاهُ، عَلِمْنَا أَنَّكَ نَبِيٌّ وَرَسُولٌ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّكَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ.

فَقَالَ لَـهُمْ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): «وَمَا تَسْأَلُونَ؟». قَالُوا: تَدْعُو لَنَا هذِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى تَنْقَلِعَ بِعُرُوقِهَا وَتَقِفَ بَيْنَ يَدَيْكَ. فَقَالَ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): «إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فإِنْ فَعَلَ اللهُ ذلِكَ لَكُمْ، أَتُؤْمِنُونَ وَتَشْهَدُونَ بِالْـحَقِّ!». قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: «فَإِنِّي سَأُرِيكُمْ مَا تَطْلُبُونَ، وإِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكُمْ لا تَفِيئُونَ إِلَى خَيْرٍ، وَإِنَّ فِيكُمْ مَنْ يُطْرَحُ فِي الْقَلِيبِ، وَمَنْ يُحَزِّبُ الأَحْزَابَ».

ثُمَّ قَالَ: «يَا أَيَّتُهَا الشَّجَرَةُ إِنْ كُنْتِ تُؤمِنِينَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، وَتَعْلَمِينَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ، فَانْقَلِعِي بعُرُوقِكِ حَتَّى تَقِفِي بَيْنَ يَدَيَّ بِإِذْنِ اللهِ».

فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْـحَقِّ نَبِيّاً لاَنْقَلَعَتْ بِعُرُوقِهَا، وَجَاءَتْ وَلَهَا دَوِيٌّ شَدِيدٌ، وَقَصْفٌ([113]) كَقَصْفِ أَجْنِحَةِ الطَّيْرِ، حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) مُرَفْرِفَةً، وَأَلْقَتْ بِغُصْنِهَا الأَعْلَى عَلَى رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ)، وَبِبَعْضِ أَغْصَانِهَا عَلَى مَنْكِبِي، وَكُنْتُ عَنْ يَمِينِهِ (عليه السلام).

فَلَمَّا نَظَرَ الْقَوْمُ إِلَى ذلِكَ قَالُوا ـ عُلُوّاً وَاسْتِكْبَاراً ـ : فَمُرْهَا فَلْيَأْتِكَ نِصْفُهَا وَيَبْقَى نِصْفُهَا. فَأَمَرَهَا بِذلِكَ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ نِصْفُهَا كَأَعْجَبِ إِقْبَالٍ وَأَشَدِّهِ دَوِيّاً، فَكَادَتْ تَلْتَفُّ بِرَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ). فَقَالُوا ـ كُفْراً وَعُتُوّاً ـ : فَمُرْ هذَا النِّصْفَ فَلْيَرْجِعْ إِلَى نِصْفِهِ كَمَا كَانَ. فَأَمَرَهُ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) فَرَجَعَ. فَقُلْتُ أَنَا: لا إِلهَ إِلَّا اللهُ، إِنِّي أَوَّلُ مُؤْمِنٍ بِكَ يَا رَسُولَ اللهِ، وَأَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِأَنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ بِأَمْرِ اللهِ تَصْدِيقاً لِنُبُوَّتِكَ، وإِجْلاَلاً لِكَلِمَتِكَ.

فَقَالَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ: بَلْ سَاحِرٌ كَذَّابٌ، عَجِيبُ السِّحْرِ خَفِيفٌ فِيهِ، وَهَلْ يُصَدِّقُكَ فِي أَمْرِكَ إِلَّا مِثْلُ هذَا! يَعْنُونَنِي. وَإِنِّي لَمِنْ قَوْمٍ لا تَأخُذُهُمْ فِي اللهِ لَوْمَةُ لاَئِمٍ، سِيَماهُمْ سِيَما الصِّدِّيقِينَ، وَكَلاَمُهُمْ كَلاَمُ الأَبْرَارِ، عُمَّارُ اللَّيْلِ، وَمَنَارُ النَّهَارِ، مُتَمَسِّكُونَ بِحَبْلِ الْقُرْآنِ، يُحْيُونَ سُنَنَ اللهِ وسُنَنَ رَسُولِهِ، لا يَسْتَكْبِرُونَ وَلاَيَعْلُونَ، وَلاَيَغُلُّونَ([114]) وَلا يُفْسِدُونَ، قُلُوبُهُمْ فِي الْـجِنَانِ، وَأَجْسَادُهُمْ في الْعَمَلِ.

 


[1] ـ ذكر ابن طاووس (ت 664) في كتاب اليقين: 414، 504 روايتين من كتاب عتيق تاريخه (208 هـ) وذكر انّه رأى الخطبة القاصعة فيه، وروى الكليني (ت 329) في الكافي 4: 198 ح 2 من قوله: «ولو أراد الله سبحانه بأنبيائه ـ إلى قوله ـ أبواباً فتحاً إلى فضله». أمّا حديث مجيئ الشجرة فقد وردت بألفاظ مختلفة راجع على سبيل المثال: الخصيبي (ت 334) في الهداية الكبرى: 57، والماوردي (ت 450) في أعلام النبوة: 97 [على ما في مصادر نهج البلاغة للخطيب 3: 47]، والطبرسي (ت 548) في اعلام الورى 1: 74. وقال ابن أبي الحديد في شرحه 13: 214 «وأمّا أمر الشجرة التي دعاها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، فالحديث الوارد فيها كثير مستفيض، قد ذكره المحدّثون في كتبهم، وذكره المتكلّمون في معجزات الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلم)، والأكثرون رووا الخبر فيها على الوضع الّذي جاء في خطبة أميرالمؤمنين، ومنهم من يروي ذلك مختصراً انّه دعا شجرة فأقبلت تخدّ الأرض خدّاً، وقد ذكر البيهقي في كتاب دلائل النبوة حديث الشجرة، ورواه أيضاً محمّد بن إسحاق بن يسار في كتاب السيرة والمغازي على وجه آخر...».

[2] ـ الحمى: المحلّ الّذي يمنع الأغيار من الاستفادة منه.

[3] ـ مدحوراً: مطروداً مبعداً.

[4] ـ رواؤه: منظره.

[5] ـ عَرفه: ريحه.

[6] ـ جهده: اجتهاده وجدّه.

[7] ـ الهوادة: المصالحة والموادعة.

[8] ـ يستفزّكم: يستخفّكم.

[9] ـ أجلب عليكم بخيله: أي ركبانه، ورجله: أي مشاته، والمراد أعوان السوء.

[10] ـ فوّقت السهم: جعلت له فوقاً، وهو موضع الوتر، وهذا كناية عن الاستعداد.

[11] ـ أغرق لكم بالنزع الشديد: استوفى مدّ القوس وبالغ في نزعها ليكون مرماه أبعد، ووقع سهامه أشدّ.

[12] ـ الطماعية: مصدر طمع.

[13] ـ دلف: تقدّم.

[14] ـ أقحموكم: من الاقحام وهو الادخال.

[15] ـ ولجات: جمع ولجة، وهو موضع يستتر فيه.

[16] ـ أوطأوكم: أوردوكم، وإثخان الجراحة: المبالغة في القتل.

[17] ـ خزائم: جمع خزامة وهو الزمام.

[18] ـ أورى: أكثر ايراء، والايراء اخراج النار من الزند.

[19] ـ متألّبين: مجتمعين.

[20] ـ حدّكم: بأسكم وشدّتكم. جَدّكم: أي قطعكم.

[21] ـ البنان: أطراف الأصابع.

[22] ـ الحومة: معظم الشيء.

[23] ـ أمعنتم: أسرعتم.

[24] ـ مصارحة لله: مواجهة له.

[25] ـ ملاقح: جمع ملقح والمصدر اللقاح، والشنآن: البغض.

[26] ـ أعنقوا: أسرعوا.

[27] ـ المهاوي: مساقط.

[28] ـ ذلل: جمع ذلول وهو السهل، والسياق هنا: السوق. والسلس: السهل أيضاً.

[29] ـ الهجينة: العيب والقبح.

[30] ـ الاعتزاء: الانتساب.

[31] ـ الأدعياء: جمع دعي، وهو من يدّعي ما ليس له.

[32] ـ شربتم بصفوكم كدرهم: أي شربتم كدرهم مستبدلين ذلك بصفوكم.

[33] ـ أحلاس العقوق: ملازميه.

[34] ـ المثلات: العقوبات.

[35] ـ مثاوي: جمع مثوى وهو المنزل، ومنازل الخدود: مواضعها من الأرض بعد الموت.

[36] ـ مصارع جنوبهم: مطارحها على التراب.

[37] ـ لواقح الكبر: جمع لاقح وهو ناتج.

[38] ـ طوارق الدهر: حوادثه.

[39] ـ العِقْيان: الذهب.

[40] ـ أوعر: أغلظ.

[41] ـ النتائق: جمع نتيقة وهي البقاع المرتفعة. المدر: قطع الطين اليابس.

[42] ـ دمثة: ليّنة.

[43] ـ وشلة: قليلة الماء.

[44] ـ عطفا الرجل: جانباه.

[45] ـ مثابة: مرجعاً. والنجعة: طلب الكلأ، وسمّى كلّ من قصد أمراً يروم النفع منه منتجعاً.

[46] ـ ثمرة القلب: سويداه.

[47] ـ المفاوز: الصحاري الموحشة.

[48] ـ القفار: جمع القفر، ما لا نبت فيه. والسحيقة: البعيدة.

[49] ـ المهاوي: المساقط. والفجاج: جمع فج، الطريق بين جبلين.

[50] ـ الرمل: السعي فوق المشي قليلاً.

[51] ـ الأشعث: المنتشر الشعر، والأغبر: من علا بدنه الغبار.

[52] ـ السرابيل: الألبسة.

[53] ـ شوّهوا: قبّحوا.

[54] ـ السهل: نقيض الجبل، والقرار: المستقر من الأرض.

[55] ـ الجمّ: الكثير.

[56] ـ ملتف البنى: مشتبك العمارة.

[57] ـ البرّة: الحنطة.

[58] ـ أرياف: جمع ريف، وهو كلّ أرض بها خصب.

[59] ـ عراص: جمع عرصة. ومغدقة: كثيرة الماء والنبت.

[60] ـ مضارعة الشكّ: مقارنته.

[61] ـ معتلج: مصدر ميمي من الإعتلاج وهو الإلتطام.

[62] ـ تساور: تخالط.

[63] ـ أكدى الحافر: إذا عجز عن التأثير في الأرض.

[64] ـ الإشواء: خطأ المقتل، يقال: رمى فأشوى أي لم يصب المقتل كأ نّه يصيب الشوى وهي الأطراف كاليد والرجل.

[65] ـ الطمر: الثوب الخلق.

[66] ـ أطرافهم: أعضاؤهم.

[67] ـ عتائق الوجوه: كرامها.

[68] ـ المتون: الظهور.

[69] ـ نواجم: جمع نجم، وهو ما طلع من الأرض.

[70] ـ القدع: الكف.

[71] ـ تليط: تلصق.

[72] ـ المترف: الذي أطغته النعمة.

[73] ـ يعاسيب: سادات.

[74] ـ الرغيبة: المرغوبة فيها.

[75] ـ الأحلام: العقول.

[76] ـ الجِوار: المجاورة بمعنى الاحتماء بالغير من الظلم.

[77] ـ الذمام: العهد.

[78] ـ المثلات: العقوبات.

[79] ـ تفاوت حاليهم: اختلافهما.

[80] ـ زاحت: بعدت وذهبت.

[81] ـ الفقرة: عظم الظهر.

[82] ـ المُنّة: القوّة.

[83] ـ الاملاء: جمع ملأ، جماعة الرؤساء.

[84] ـ الأيدي المترادفة: المتعاونة.

[85] ـ غضارة النعمة: سعتها.

[86] ـ الاعتدال ـ هنا ـ : التناسب.

[87] ـ الاشتباه ـ هنا ـ : التشابه.

[88] ـ يحتازونهم: يبعدونهم، وريف الآفاق: خصبها.

[89] ـ الشيح: نبت معروف.

[90] ـ مهافي: مذاهب.

[91] ـ الدَبَر: القرحة في ظهر البعير، والوَبَر: شعر الجمال. والمراد انّهم رعاة.

[92] ـ أزل: ضيق.

[93] ـ أطباق جهل: أي جهل مطبق متراكم بعضه فوق بعض.

[94] ـ الموءودة: المدفونة حياً.

[95] ـ مشنونة: متفرقة من كلّ جانب.

[96] ـ العوائد: ما يعود على الناس من الخيرات والنعيم.

[97] ـ تربعت: أقامت.

[98] ـ يكنّى عن العزيز الذي لا يضام فيقال: لا تغمز له قناة، أي هو صلب. والقناة: الرمح، وغمزها: لمسها باليد للتقويم.

[99] ـ لا تقرع لهم صفاة: مثل يضرب لمن لا يطمع في جانبه لعزّته وقوّته. والصفاة: الحجر الصلد، وقرعها: صدمها.

[100] ـ ثلمتم: خرقتم.

[101] ـ دوّخت: ذلّلت.

[102] ـ الردهة: النقرة في الجبل يستنقع فيها الماء، وشيطان الردهة: ذو الثدية، وُجد مقتولاً في ردهة.

[103] ـ الصعق: الغشوة من صوت شديد وربّما مات منه.

[104] ـ وجبة قلبه: اضطرابه.

[105] ـ أدلت من فلان: غلبته وقهرته.

[106] ـ يتشذّر: يتفرّق.

[107] ـ الكلاكل: الصدور.

[108] ـ نواجم: طوالع.

[109] ـ العرف: الرائحة الطيبة.

[110] ـ الخطلة في الفعل: الخطأ فيه.

[111] ـ الفصيل: ولد الناقة.

[112] ـ اُنظر إلى هذه الفضيلة العظمى، والمنقبة الكبرى، حيث كان (عليه السلام) مصاحباً للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) في حراء، يرى نور الوحي والرسالة، ويشمّ ريح النبوّة، وقد شهد نزول الوحي، وسمع رنّة الشيطان، وتوسّم بوسام: «ولكنّك وزير وانّك لعلى خير». ثم اُنظر إلى القوم كيف تبجّحوا بآية الغار، ومجاورة أبي بكر النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) لساعاتٍ من النهار، استدلّوا بها على خلافته بعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فأبوبكر لم ير نور الوحي، ولم يشمّ ريح النبوّة، ولم يشهد نزول الوحي، ولم يسمع رنّة الشيطان، ولم يقل له النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) «ولكنّك وزير»، فأين هذه من تلك؟ وأين الثرى من الثريا؟! وقد قال ابن أبي الحديد في شرحه للنهج 13: 252 نقلاً عن شيخه أبي جعفر: «ثمّ أنتم معاشر العثمانية تثبتون لأبي بكر فضيلة بصحبة الرسول صلى الله عليه وآله من مكة إلى يثرب، ودخوله معه في الغار، فقلتم: مرتبة شريفة وحالة جليلة، إذ كان شريكه في الهجرة، وأنيسه في الوحدة، فأين هذه من صحبة علي عليه السلام له في خلوته، وحيث لا يجد أنساً غيره ليله ونهاره، أيام مقامه بمكة يعبد الله معه سرّاً، ويتكلف له الحاجة جهراً، ويخدمه كالعبد يخدم مولاه، ويشفق عليه ويحوطه، وكالولد يبرّ والده ويعطف عليه».

[113] ـ قصف: صوت شديد.

[114] ـ يغلّون: يخونون.