العربية
100%
بَابُ المخُتَْارِ مِنْ خُطب مولانا أمير المؤُمِنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)

الخطبة 220: قاله بعد تلاوته: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ)

[220] ومن كلام له (عليه السلام)

قاله بعد تلاوته <ألْـهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْـمَقَابِرَ> :

يَا لَهُ مَرَاماً مَا أَبْعَدَهُ([1])! وَزَوْراً([2]) مَا أَغْفَلَهُ! وَخطراً مَا أَفْظَعَهُ! لَقَدِ اسْتَخْلَوْا([3]) مِنْهُمْ أَيَّ مُدَّكِّرٍ، وَتَنَاوَشُوهُمْ([4]) مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ! أَفَبِمَصَارِعِ آبَائِهِمْ يَفْخَرُونَ! أَمْ بِعَدِيدِ الْـهَلْكَى يَتَكَاثَرُونَ!

يَرْتَجِعُونَ مِنْهُمْ أَجْسَاداً خَوَتْ([5])، وَحَرَكَاتٍ سَكَنَتْ، وَلَأَنْ يَكُونُوا عِبَراً، أَحَقُّ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُفْتَخَراً، وَلَأَن يَهْبِطُوا بِهِمْ جَنَابَ ذِلَّةٍ، أَحْجَى([6]) مِنْ أَنْ يَقُوموُا بِهِمْ مَقَامَ عِزَّةٍ!

لَقَدْ نَظَرُوا إِلَيْهِمْ بِأَبْصَارِ الْعَشْوَةِ([7])، وَضَرَبُوا مِنْهُمْ فِي غَمْرَةِ جَهَالَةٍ([8])، وَلَوِ اسْتَنْطَقُوا عَنْهُمْ عَرَصَاتِ تِلْكَ الدِّيَارِ الْـخَاوِيَةِ، وَالرُّبُوعِ([9]) الْـخَالِيَةِ، لَقَالَتْ: ذَهَبُوا فِي الأرْضِ ضُلاَّلاً، وَذَهَبْتُمْ فِي أَعْقَابِهِمْ جُهَّالاً، تَطَؤُونَ فِي هَامِهِمْ، وَتَسْتَنْبِتُونَ([10]) فِي أَجْسَادِهِمْ، وَتَرْتَعُونَ([11]) فِيَما لَفَظُوا، وَتَسْكُنُونَ فِيَما خَرَّبُوا، وَإِنَّمَا الأيَّامُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ بَوَاكٍ وَنَوَائِحُ عَلَيْكُمْ.

أُولئِكُمْ سَلَفُ غَايَتِكُمْ، وَفُرَّاطُ مَنَاهِلِكُمْ([12])، الَّذِينَ كَانتْ لَـهُمْ مَقَاوِمُ([13]) الْعِزِّ، وَحَلَبَاتُ([14]) الْفَخْرِ، مُلُوكاً وَسُوَقاً([15])، سَلَكُوا فِي بُطُونِ الْبَرْزَخِ سَبِيلاً سُلِّطَتِ الأرْضُ عَلَيْهِمْ فِيهِ، فَأَكَلَتْ مِنْ لُـحُومِهِمْ، وَشَرِبَتْ مِنْ دِمَائِهِمْ، فَأَصْبَحُوا فِي فَجَوَاتِ قُبُورِهِمْ جَمَاداً لا يَنْمُونَ، وَضِمَاراً([16]) لا يُوجَدُونَ، لا يُفْزِعُهُمْ وُروُدُ الأهوَالِ، وَلا يَحْزُنُهُمْ تَنَكُّرُ الأحْوَالِ، وَلا يَحْفِلُونَ بِالرَّوَاجِفِ، وَلا يَأْذَنُونَ لِلْقَوَاصِفِ([17])، غُيَّباً لا يُنْتَظَرُونَ، وَشُهُوداً لا يَحْضُرُونَ، وَإِنَّمَا كَانُوا جَمِيعاً فَتَشَتَّتُوا، وَأُلّافَاً فَافْتَرَقُوا، وَمَا عَنْ طُولِ عَهْدِهِمْ، وَلا بُعْدِ مَحَلِّهِمْ، عَمِيَتْ أخْبَارُهُمْ، وَصَمَّتْ دِيَارُهُمْ، وَلكِنَّهُمْ سُقُوا كَأْساً بَدَّلَتْهُمْ بِالنُّطْقِ خَرَساً، وَبِالسَّمْعِ صَمَماً، وَبِالْـحَرَكَاتِ سُكُوناً، فَكَأَنَّهُمْ فِي ارْتِجَالِ الصِّفَةِ([18]) صَرْعَى سُبَاتٍ([19])، جِيرَانٌ لا يَتَأَنَّسُونَ، وَأَحِبَّاءٌ لا يَتَزَاوَرُونَ، بَلِيَتْ بَيْنَهُمْ عُرَى التَّعَارُفِ، وَانْقَطَعَتْ مِنْهُمْ أَسْبَابُ الإخَاءِ، فَكُلُّهُمْ وَحِيدٌ وَهُمْ جَمِيعٌ، وَبِجَانِبِ الْـهَجْرِ وَهُمْ أَخِلاَّءُ، لا يَتَعَارَفُونَ لِلَيْلٍ صَبَاحاً، وَلا لِنَهَارٍ مَسَاءً.

أَيُّ الْـجَدِيدَيْنِ([20]) ظَعَنُوا فِيهِ كَانَ عَلَيْهِمْ سَرْمَداً، شَاهَدُوا مِنْ أَخْطَارِ دَارِهِمْ أَفْظَعَ مِمَّا خَافُوا، وَرَأَوْا مِنْ آيَاتِهَا أَعْظَمَ مِمَّا قَدَّرُوا، فَكِلا الْغَايَتَيْنِ([21]) مُدَّتْ لَـهُمْ إِلَى مَبَاءَةٍ([22])، فَاتَتْ مَبَالِغَ الْـخَوْفِ وَالرَّجَاءِ.

فَلَوْ كَانُوا يَنْطِقُونَ بِهَا لَعَيُّوا بِصِفَةِ مَا شَاهَدُوا وَمَا عَايَنُوا، وَلَئِنْ عَمِيَتْ آثَارُهُمْ، وَانْقَطَعَتْ أَخْبَارُهُمْ، لَقَدْ رَجَعَتْ فِيهِمْ أَبْصَارُ الْعِبَرِ، وَسَمِعَتْ عَنْهُمْ آذَانُ الْعُقُولِ، وَتَكَلَّمُوا مِنْ غَيْرِ جِهَاتِ النُّطْقِ، فَقَالُوا: كَلَحَتِ([23]) الْوُجُوهُ النَّوَاضِرُ([24])، وَخَوَتِ الأجْسَادُ النَّوَاعِمُ، وَلَبِسْنَا أَهْدَامَ الْبِلَى، وَتَكَاءَدَنَا([25]) ضِيقُ الْـمَضْجَعِ، وَتَوَارَثْنَا الْوَحْشَةَ، وَتَهَكَّمَتْ([26]) عَلَيْنَا الرُّبُوعُ الصُّمُوتُ([27])، فَانْمَحَتْ مَحَاسِنُ أَجْسَادِنَا، وَتَنَكَّرَتْ مَعَارِفُ صُوَرِنَا، وَطَالَتْ فِي مَسَاكِنِ الْوَحْشَةِ إِقَامَتُنَا، وَلَمْ نَجِدْ مِنْ كَرْبٍ فَرَجاً، وَلا مِنْ ضِيقٍ مُتَّسَعَاً!

فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ بِعَقْلِكَ، أَوْ كُشِفَ عَنْهُمْ مَحْجُوبُ الْغِطَاءِ لَكَ، وَقَدِ ارْتَسَخَتْ([28]) أَسْمَاعُهُمْ بِالْـهَوَامِّ فَاسْتَكَّتْ([29])، وَاكْتَحَلَتْ أَبْصَارُهُمْ بِالتُّرَابِ فَخَسَفَتْ، وَتَقَطَّعَتِ الألْسِنَةُ فِي أَفْوَاهِهِمْ بَعْدَ ذَلاَقَتِهَا، وَهَمَدَتِ الْقُلُوبُ فِي صُدُورِهِمْ بَعْدَ يَقظَتِهَا، وعَاثَ([30]) فِي كُلِّ جَارِحَةٍ مِنْهُمْ جدِيدُ بِلًى سَمَّجَهَا([31])، وَسَهَّلَ طُرُقَ الآفَةِ إِلَيْهَا مُسْتَسْلِمَاتٍ فَلاَ أَيْدٍ تَدْفَعُ، وَلا قُلُوبٌ تَجْزَعُ، لَرَأَيْتَ أَشْجَانَ قُلُوبٍ، وَأَقْذَاءَ عُيُونٍ، لَـهُمْ فِي كُلِّ فَظَاعَةٍ صِفَةُ حَالٍ لا تَنْتَقِلُ، وَغَمْرَةٌ([32]) لا تَنْجَلِي.

فَكَمْ أَكَلَتِ الأرْضُ مِنْ عَزِيزِ جَسَدٍ، وَأَنِيقِ لَوْنٍ، كَانَ فِي الدُّنْيَا غَذِيَّ تَرَفٍ، وَرَبِيبَ شَرَفٍ! يَتَعَلَّلُ([33]) بِالسُّرُورِ فِي سَاعَةِ حُزْنِهِ، وَيَفْزَعُ إِلَى السَّلْوَةِ([34]) إِنْ مُصِيبَةٌ نَزَلَتْ بِهِ، ضَنّاً بِغَضَارَةِ عَيْشِهِ، وَشَحَاحَةً([35]) بِلَهْوِهِ وَلَعِبِهِ!

فَبَيْنَا هُوَ يَضْحَكُ إِلَى الدُّنْيَا وَتَضْحَكُ إِلَيْهِ فِي ظِلِّ عَيْشٍ غَفُولٍ ، إِذْ وَطِىءَ الدَّهْرُ بِهِ حَسَكَهُ، وَنَقَضَتِ الأيَّامُ قُوَاهُ، وَنَظَرَتْ إِلَيْهِ الْـحُتُوفُ مِنْ كَثَبٍ، فَخَالَطَهُ بَثٌّ([36]) لايَعْرِفُهُ، وَنَجِيُّ هَمٍّ([37]) مَا كَانَ يَجِدُهُ، وَتَوَلَّدَتْ فِيهِ فَترَاتُ([38]) عِلَلٍ، آنَسَ مَا كَانَ بِصِحَّتِهِ، فَفَزِعَ إِلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ الأطِبَّاءُ مِنْ تَسْكِينِ الْـحَارِّ بِالْقَارِّ([39])، وَتَحْرِيكِ الْبَارِدِ بِالْـحَارِّ، فَلَمْ يُطْفِىءْ بِبَارِدٍ إِلَّا ثَوَّرَ حَرَارَةً، وَلا حَرَّكَ بِحَارٍّ إِلَّا هَيَّجَ بُرُودَةً، وَلا اعْتَدَلَ بِمُمَازِجٍ لِتِلْكَ الطَّبَائِعِ إِلَّا أَمَدَّ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ دَاءٍ، حَتَّى فَتَرَ مُعَلِّلُهُ([40])، وَذَهَلَ مُمَرِّضُهُ، وَتَعَايَا أَهْلُهُ بِصِفَةِ دَائِهِ، وَخَرِسُوا عَنْ جَوَابِ السَّائِلِينَ عَنْهُ، وَتَنَازَعُوا دُونَهُ شَجِيَّ خَبَرٍ يَكْتُمُونَهُ، فَقَائِلٌ [يَقُولُ] هُو لِـمَا بِهِ، وَمُمَنّ ٍ لَـهُمْ إِيَابَ عَافِيَتِهِ، وَمُصَبِّرٌ لَـهُمْ عَلَى فَقْدِهِ، يُذَكِّرُهُمْ أَسَى الْـمَاضِينَ مِنْ قَبْلِهِ.

فَبَيْنَا هُوَ كَذلِكَ عَلَى جَنَاحٍ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا، وَتَرْكِ الأَحِبَّةِ، إِذْ عَرَضَ لَهُ عَارِضٌ مِنْ غُصَصِهِ، فَتَحَيَّرَتْ نَوَافِذُ فِطْنَتِهِ([41])، وَيَبِسَتْ رُطُوبَةُ لِسَانِهِ، فَكَمْ مِنْ مُهِمٍّ مِنْ جَوَابِهِ عَرَفَهُ فَعَيَّ عَنْ رَدِّهِ، وَدُعَاءٍ مُؤْلِمٍ لِقَلْبِهِ سَمِعَهُ فَتَصَامَّ عنْهُ، مِنْ كَبِيرٍ كَانَ يُعَظِّمُهُ، أَوْ صَغِيرٍ كَانَ يَرْحَمُهُ! وَإِنَّ لِلْمَوْتِ لَغَمَرَاتٍ هِيَ أَفْظَعُ مِنْ أَنْ تُسْتَغْرَقَ بِصِفَةٍ، أَوْ تَعْتَدِلَ عَلَى عُقُولِ أَهْلِ الدُّنْيَا([42]).

 


[1] ـ ياله مراماً ما أبعده: جمع (عليه السلام) بين نداء التعجّب في قوله: «يا له مراماً» وفعل التعجب في قوله: «ما أبعده» تنبيهاً على انّ هذا المرام وهذا المقصد من التفاخر بالموتى في غاية التعجب.

[2] ـ الزور: الزائرون.

[3] ـ استخلى: ذكر اموراً خالية.

[4] ـ تناوشوهم: تناولوهم.

[5] ـ خوت: سقطت.

[6] ـ أحجى: أحرى وأجدر وأولى.

[7] ـ العشوة: سوء البصر بالليل، أو مرض في العين ينقص به الإبصار.

[8] ـ في غمرة جهالة: أي مجرى جهالة.

[9] ـ الربوع: المساكن.

[10] ـ تستنبتون: أي تزرعون النبات في أجسادهم.

[11] ـ ترتعون: من رتعت الماشية أكلت ما شاءت.

[12] ـ سلف الغاية: السابق إليها. الفارط: السابق إلى الماء، والمناهل: موارد الماء.

[13] ـ المقوم: الخشبة التي يمسكها الحرّاث.

[14] ـ حلبات: جمع حلبة، وهي جماعة خيل السباق.

[15] ـ سوقاً: جمع سوقة، وهي الرعيّة.

[16] ـ الضمار: خلاف العيان، والمراد انّهم مستورون في القبور.

[17] ـ لا يحفلون بالرواجف: أي لا يبالون بالزلازل. لا يأذنون للقواصف: أي لا يستمعون للشدائد.

[18] ـ ارتجال الصفة: الإتيان بها على غير تروّ وتأمّل.

[19] ـ السبات: النوم.

[20] ـ الجديدان: الليل والنهار.

[21] ـ الغايتان: الجنة والنار.

[22] ـ المباءة: مكان التبوّء والاستقرار، والمراد منها ما يرجعون إليه في الآخرة.

[23] ـ كلحت: تغيّرت.

[24] ـ النواضر: الحسنة البواسم.

[25] ـ أهدام: جمع هدم، وهو الثوب البالي. تكاءدنا: شق علينا.

[26] ـ تهكّمت: تهدّمت.

[27] ـ الربوع الصموت: الربوع جمع الربع وهو الدار، والصموت: السكوت.

[28] ـ ارتسخت: من رسخ الغدير: نش ماؤه أي أخذ في النقصان والنضب.

[29] ـ استكّت: صمّت.

[30] ـ العيث: الإفساد.

[31] ـ سمّجها: قبّحها.

[32] ـ الغمرة: الشدّة.

[33] ـ يتعلّل: يتشاغل.

[34] ـ السلوة: من سلى همّه أي انكشف.

[35] ـ الشحاحة: أشدّ البخل.

[36] ـ حسكه: شوكته. الحتوف: جمع حتف، أي الموت. بثّ: حزن.

[37] ـ نجيّ الهمّ: ما يناجيك ويسارك.

[38] ـ الفترات: أوائل المرض.

[39] ـ القار: البارد.

[40] ـ المعلّل: الممرّض.

[41] ـ نوافذ الفطنة: ما كان من أفكار نافذة.

[42] ـ قال ابن أبي الحديد في شرحه11: 153: «واقسم بماتقسم الامم كلّها به، لقد قرأت هذه الخطبة منذ خمسين سنة وإلى الآن أكثر من ألف مرّة، وما قرأتها قط إلاّ وأحدثت عندي روعة وخوفاً وعظة، وأثّرت في قلبي وجيباً، وفي أعضائي رعدة، ولا تأمّلتها إلاّ وذكرت الموتى من أهلي وأقاربي وأرباب ودّي، وخيّلت في نفسي إنّي أنا ذلك الشخص الذي وصف (عليه السلام) حاله. وكم قد قال الواعظون والخطباء والفصحاء في هذا المعنى، وكم وقفت على ما قالوه وتكرّر وقوفي عليه، فلم أجد لشيء منه مثل تأثير هذا الكلام في نفسي».