العربية
100%
علي (ع) إمام الأمة

الإمام عليٌّ (ع) إمامُ الأمةِ

الحلقة الأولى: من سلسلة (الإمام عليٌّ (ع) إمامُ الأمةِ)

إن شخصية الإمام علي (ع) من مفاخر الإسلام، غنية بالقيم العليا والمفاهيم الإنسانية، ومهما اجتهدنا في ذكر مئات الأدلة والبراهين لا يمكن إعطاء هذا (الرجل) معشار الحق الذي فيه وله، أو أن نحصي فضائله وأحقيته، فقد حمل لواء الموعظة والإرشاد واستلّ الإعجاب والعواطف من أرواح الناس، وأقام حبه في قلوبهم حتى بلغ في تأريخ الإنسانية حدثاً عظيماً وغريباً عن طباع الناس إذ منح مميزات وخصائص لا تعطى إلا للأنبياء والمرسلين (ع).

 

التسمية والنسب:

هو (علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة)[1]، وأمه (فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، وهو أول هاشمي في الإسلام ولد من هاشميين)[2]، وأول خلفاء رسول الله (ص) المهديين بأمر من الله تبارك وتعالى ونصّ من رسوله محمد (ص).

وله ألقاب وكنى متعددة أضفاها عليه رسول الله (ص) منها: أمير المؤمنين، يعسوب الدين، المرتضى، قسيم الجنة والنار، صاحب اللواء، سيد العرب، خاصف النعل، الصديق الأكبر، ذو القرنين، الفاروق، الوصي، النبأ العظيم، أبو الحسن، أبو السبطين، أبو الريحانتين، أبو تراب.

وأما النسب الشريف لأمير المؤمنين (ع) يعود إلى الشجرة الطيبة المباركة التي أصلها إبراهيم الخليل (ع) محطم الأصنام، ولم يزل يتنقل منه بأصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات حتى أُسكن في صلب أبي طالب ورحم فاطمة بنت أسد إذ قال تعالى: (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم)[3].

وإن عيش الاثنين رسول الله محمد (ص) والإمام علي (ع) في بيت واحد وقربهما بعلاقتهما الرحمية لم يكن محض صدفة، بل من قبل أن يخلق الله تعالى الخلق بأربعة آلاف عام، وخلق نورهما من نور واحد وسلكه في صلب آدم (ع) فدخل هذا النور في الموروث التأريخي كفلسفة لنجاة البشرية.

وتنقّل ذلك الأصل النوري من خلال عمودهما النسبي من أبي البشر في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة إلى أن حلّ بعبد المطلب، وتفرق منه النور إلى عبد الله وأبي طالب، فولد النوران محمد بن عبد الله وعلي بن أبي طالب صلوات الله عليهما وعلى آلهما.

فمن ذلك جاء عن المعصومين (ع) أن رسول الله (ص) قال: (إن الله تعالى خلقني وعلياً وفاطمة والحسن والحسين قبل أن يخلق الله تعالى آدم، حيث لا سماء مبنية ولا أرض مدحية ولا ظلمة ولا نور ولا جنة ولا نار ولا شمس ولا قمر)[4].

وقال (ص): (لما أراد الله عزّ وجل بدو خلقنا تكلم بكلمة فكانت نوراً، ثم تكلم كلمة ثانية فكانت روحاً فمزج فيما بينهما واعتدلا فخلقني وعلياً منهما ثم فتق من نوري نور العرش فأنا أجل من العرش ثم فتق من نور علي نور السماوات فعلي أجل من السماوات)[5].

إذن التدابير الإلهية كانت حاضرة ومتدخلة، حيث حكمت بنشأة نورهما الأزلي، وقضت أن يُولد الإمام علي (ع) في جوف الكعبة المشرّفة يوم الجمعة في الثالث عشر من رجب الأصب بعد عام الفيل بثلاثين عاماً، إذ لم يتسنَّ لأحد مثل هذا الشرف أبداً، وهذه رعاية الله تعالى وعنايته بأوليائه، خصته إجلالاً له، وإعلاءً لمرتبته، وإظهاراً لكرامته[6].

وأما أبوه أبو طالب (رض) هو أخو عبد الله والد النبي (ص) لأمه وأبيه، انتهت إليه الزعامة المطلقة لقريش بعد أبيه عبد المطلب، وكان هو ساقي الحجيج، ومن الموحدين الرافضين لعبادة الأصنام، ولمّا مات عبد المطلب تكفل أبو طالب رعاية النبي محمد (ص) وهو في الثامنة من عمره، وعاش في كنف عمه أبي طالب إلى أن توفي رضوان الله تعالى عليه.

ويروى أن أبا طالب (رض) كان يحب النبي (ص) حباً شديداً، لا يفارقه، وبعد البعثة كان أبو طالب (رض) راسخ الإيمان به (ص)، ومعتقداً بالإسلام، حاثاً أولاده أن يصلوا جناح ابن عمهم.

وكان (رض) المدافع الأول عن النبي (ص) وقد منع أن يصل إليه أي سوء من قريش لمكانته عند زعماء قريش، فلم يجرؤ أحد بحضوره على النيل من النبي (ص)، وعندما مات أبو طالب (رض) في الشعب منفياً مع النبي (ص) لم يعد أمام قريش من تهابه في إيذاء رسول الله (ص) حتى قال (ص): (ما زالت قريش كافة عني حتى مات أبو طالب)[7].

وأم الإمام (ع) (فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف (رض))، تجتمع هي وأبو طالب في هاشم، أسلمت وهاجرت مع النبي (ص) وكانت من السابقات إلى الإيمان، ولأنها كانت مربية للنبي محمد (ص) في بيتها، كان رسول الله (ص) يحبها حباً شديداً كحب أمه، وعند موتها قال (ص): (وأمي والله)[8].

وحزن عليها رسول الله (ص) حزناً شديداً، وجلس (ص) عند رأسها ودعا لها وأغمض عينيها، وأمر أن تغسل بالماء ثلاثاً وسكب هو ماء الكافور بيده، ثم خلع قميصه فألبسها إياه وكفنت فوقه، وحفر بيده الشريفة لحدها، واضطجع فيه، ثم أدخلها فيه وقال (ص): (ألبستها قميصي لتلبس من ثياب الجنة، واضطجعت في قبرها ليخفّف عنها من ضغطة القبر، إنها كانت من أحسن خلق الله صنعاً إليَّ بعد أبي طالب رضي الله عنهما ورحمهما)[9].

 

النشأة:

نشأ المولى أمير المؤمنين (ع) في حجر النبي (ص) منذ أن تكفله من دون إخوته من عمه أبي طالب وهو صبي، فقال (ص): (اخترت من اختاره الله لي عليكم علياً)[10]، فكان يغذيه ويسهر على تربيته، وشرع بتعليمه واهتم به اهتمام من يريد أن يضع فيه كل ما يريد وفق ما علمه ربه.

فحَظي بإعداد رسالي غير عادي من قبل رسول الله (ص) الذي ما كان ليعرف له مثيل في الإنسانية، إثراءً لقدراته، وتنميةً لقابلياته وقواه الذاتية، فأوصل علياً (ع) إلى مستوى رفيع في الصلاح، وقد أعطاه (ص) جلّ اهتمامه، لعلمه أن له منزلةً عظيمة وشأناً كبيراً في الإسلام، وما كان ليعطي أحداً في الليل والنهار كعطائه لعلي (ع) من راحته.

لذا كان مملوءاً فهماً وعلماً وفضيلة إذ إنه لم يفارقه أبداً، حتى إن بعض نساء النبي (ص) غرن منه، وهو (ص) يستقطع جزءاً كبيراً من وقته معه لقرب روحيهما وعمق ارتباطهما غير المحدود.

وهذه دلالة ليقوم بينهما مصير واحد وعطاء مشترك، فملك علي (ع) ما كان يملكه النبي (ص) من العلم والمعرفة والحكمة والأخلاق، والإدارة، والسياسة، والرعاية وغيرها من تصاريف شؤون الدين والدنيا، فأصبح في الشبه مجسداً كل تفاصيل حياته.

ووصف عليه السلام ذلك الالتحام والقرب وتلك المزلة بقوله: (وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا وليد يضمني إلى صدره، ويكنفني إلى فراشه، ويمسني جسده ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل.

ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري. ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلى الله عليه وآله وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة)[11]، وقال أيضاً: (فربما كان في بيتي يأتيني رسول الله صلى الله عليه وآله أكثر ذلك في بيته، وكنت إذا دخلت عليه بعض منازله أخلاني وأقام عني نساءه، فلا يبقى عنده غيري وإذا أتاني للخلوة معي في منزلي لم تقم عني فاطمة ولا أحد من بني، وكنت إذا سألته أجابني وإذا سكت عنه وفنيت مسائلي ابتدأني، فما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله آية من القرآن إلا أقرأنيها وأملاها عليّ فكتبتها بخطي وعلمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، وخاصها وعامها، ودعا الله أن يعطيني فهمها، وحفظها، فما نسيت آية من كتاب الله ولا علماً أملاه علي وكتبته)[12].

أما سرّ هذا الإعداد الكبير فيكمن في تأهيل علي (ع) لخلافته في الأمة الإسلامية، ولتسليمه أمور الدين ومقاليد الحكم، ولتمكينه من حفظ الرسالة ومستقبلها.

وظهرت ثمار هذا التأهيل في إنجازات الإمام علي (ع) منذ أن فتح عينه على الإسلام في كل المستويات النفسية، والروحية، والجهادية، وفي الأمور العبادية والاستقامة، وما إلى ذلك مما جعله جديراً بخلافة النبي (ص)، لهذا كان (ص) يقول: (لا يبلّغ عني إلا علي)[13].

وكان الإمام (ع) يدرك ذلك الاهتمام من النبي (ص)، وأخذ يعي بكل وجوده أنه أمام مسؤولية كبرى للمحافظة على النبي (ص) ورسالته، فكان يدافع عنهما طوال ثلاثة وعشرين عاماً من الجهاد المتواصل بكل ما وهب من قوة، حتى بلغ من نفس النبي (ص) أجلّ منزلة وأعلى مرتبة.

ورسول الله (ص) يعلم أن علياً يدافع عنه دفاعه عن عينيه، وأنه عضد له في كل المواقف، وحاضر بين يديه في أحرج اللحظات عند صراعه مع الجاهلية في المدينتين (مكة، والمدينة)، وفي المعارك كلها كان الدرع الحصين الذي يقي رسول الله (ص) ويمنع وصول أي مكروه إليه، حتى بلغا معاً بالإسلام أهدافه الكبرى.

فمثالية علي (ع) مثالية رسول الله (ص)، لأن علياً (ع) عاش كل متغيرات حياة النبي (ص)، يرى فيه المثل الكامل والقدوة بكل حركاته وسكناته، حتى وصل اقتباسه منه أنه يرى الواقع مكشوفاً كما يراه النبي (ص).

ومن خلال عيشهما معاً كان علي (ع) يعيش أجواء الوحي لحظة بلحظة، وهو ما ذكره (ع) في قوله: (ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى الله عليه وآله، فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنة؟ فقال: هذا الشيطان أيس من عبادته، إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي)[14].

(وسئل العباس كيف ورث علي رسول الله (ص)؟ قال: لأنه كان أولنا به لحوقاً وأشدنا به لزوقاً)[15].

وفي زواجه من بنت الرسول (ص) فاطمة الزهراء (ع) في السنة الثانية للهجرة، وبعد أن بلغت الزهراء (ع) مبلغ النساء شرع الخطّاب بما فيهم أبو بكر وعمر يتسابقون إلى النبي (ص) يطلبونها منه[16]، وهو يردهم رداً جميلاً ويقول: (إني أنظر فيها أمر الله).

وكان الإمام علي (ع) من الراغبين في الزواج منها، ولكن يمنعه حياؤه وقلة ذات اليد، فتشجّع ودخل على النبي (ص) مطرقاً رأسه إلى الأرض خاطباً من رسول الله (ص) ابنته فاطمة الزهراء (ع)، وكان رسول الله (ص) ينتظر المبادرة من علي (ع) فقال: مرحباً وأهلاً، إن الله أمرني أن أزوج فاطمة من علي، والتفت إلى علي (ع) وقال (ص): لقد أمرني ربي أن أزوجك فاطمة، أرضيت هذا الزواج يا علي؟ فقال (ع): رضيته يا رسول الله، وخرّ ساجداً لله شكراً.

 

ودخل (ص) على بضعته الطاهرة المطهّرة ليعرض عليها رغبة علي (ع) فقال (ص) لها: لقد سألت ربِّي أن يزوجك خير خلقه وأحبهم إليه، وقد عرفتِ علياً وفضله ومواقفه، وجاءني اليوم خاطباً فما ترين؟ فأمسكت ولم تتكلم بشيء، فخرج النبي (ص) وهو يقول: سكوتها رضاها وإقرارها[17].