العربية
100%
علي (ع) إمام الأمة

أعلمية الإمام علي (ع) وشجاعته

الحلقة الرابعة (أعلمية الإمام علي (ع) وشجاعته) 

ما زلنا في فضائل هذا القطب الوضاء من الصفوة المختارة المولى علي بن أبي طالب (ع)، الذي تفتخر  به الأمم، وتتجاذبه الشعوب، ويتشرف به المسلمون برغم اختلاف كلمتهم التي نالت اتفاقهم وتسالمهم في فكرة أعلميته وحكمته قديماً وحديثاً، وفي تمتعه بأعلى مراتب المعرفة، وأن له سجلاً حافلاً فاق علم الأولين والآخرين باستثناء رسول الله (ص)، لعمق مضامينه التي تشكلت لديه مما جعله في كل جيل يقرؤوه قراءة جديدة تدل على إنه الأعلم والأعرف بعلوم الدين والدنيا، والأعلمية أوضح مصاديق الأفضلية، فلهذا هو الأفضل وإلا لما كان إماماً.

ولقد تعارف في المجتمعات أنها تكتسب النشأة الصحيحة من خلال البعد العلمي، وتتعزز لدى أفراده الرؤية المتكاملة من قيم المعارف والإصلاح، وهو ما تأهل به المجتمع الإسلامي من استلهاماته عليه السلام حتى اقترب أكثر إلى قضايا الترتيب والتنظيم في قضايا الناس، وهناك أدلة تأريخية كثيرة تشير إلى هذه الحقيقة، فمثلاً في قوله تعالى: (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين)[1]، سُئل النبي (ص) عن ذلك أهو التوراة أو الإنجيل أو القرآن؟ قال: لا، فأقبل علي (ع) فقال رسول الله (ص): هو هذا الإمام الذي أحصى الله تبارك وتعالى فيه كل شيء[2].

لهذا الإمام (ع) أكثر بكثير من كل صورة نرسمها له، فكان السفر إليه بحياة الناس الفكرية لها معانٍ في تقدمهم ونضوجهم في الميادين كافة، وهو ما حرص على وصفه رسول الله (ص) للأمة في علي (ع) أنه باب مدينة علمه، وباب دار حكمته، وخازن علمه، وإلى ما شاكل في فخامة هذه الصفة التي يحملها حيث لا يحتاج معها إلى دليل أن له ارتباطاً واقعياً مع مصادر التشريع الإسلامي.

فاللائق للولاية هو الذي يعرف كل دلائل القرآن، ومقاصد الشريعة الكلية والآيات، والتأويل، والتفسير، والناسخ، والمنسوخ، والخاص، والعام، والمحكم، والمتشابه، وهو علي (ع) يشرح كشرح النبي (ص)، وله حركة كحركة علمه، وحكمته، (ويمكنه إقامة الحجج والبراهين على أحقية هذا الدين ودفع الشبهات الفكرية وإشكالات المخالفين)[3]، حتى عُرف عنه (ع) أنه كتاب الله الناطق[4]، وكم كان رسول الله (ص) يكرر في حديثه: (وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض)، القرآن والعترة، اهتماماً بشأنهما، فكانت صراحة أن علياً (ع) عميد العترة الطاهرة يعلم كل كتاب الله من أوله إلى آخره ([5]).

وبالحقيقة هناك طرائق متعددة لإثبات أعلميته المطلقة في الكتاب والسنة، فقد قال تعالى: (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم)، قال الباقر (ع): نحن الأئمة خاصة وإيانا عنى[6]، فهذه وغيرها تُعزا إلى شخصيته المباركة الطافحة بأساليب الفن والبيان، ولكونه على بينة من ربه وباصراً، بقيت مدرسته المتعددة الأغراض خالدة لا تضمر ولا تندثر بتداول الأجيال.  

أضف أن للإمام علي (ع) إدراكات بكل وقائع الأشياء فعلمه بطرق السماوات والأرض أعمق وأعظم، وهو ما يؤكد الإشادة به من قبل رسول (ص) بقوله: (علي باب علمي ومبين لأمتي ما أرسلت به من بعدي)[7].

وتواتر عن علي (ع) قوله: (يا أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وآله أسر إليّ ألف حديث، في كل حديث ألف باب، لكل باب ألف مفتاح)[8].

وكان عليه السلام هو العالم الرباني الذي حاز العلم (اللدني أو الحضوري)، زقَّ فيه من علم الله تعالى وحكمته، فقد قيل يحدثه ملك مثله مثل صاحب سليمان، ومثل صاحب موسى، ومثل ذي القرنين، كان عبداً أحب الله فأحبه، وناصح الله فناصحه[9].

 وعلم آخر تقلده عليه السلام وهو العلم (الكسبي أو الحصولي)، تعلمه من رسول الله (ص) وربما ارتفع بالعلمين ارتفاع الحاجب عن العين في الناس، إذ امتد نظره إلى أعماق غيب ما مضى، إذ كان يخبر بدقة عن أمم سادت ثم بادت، وعن العبر المستقات من حياة شخصيات عاشت بتلك الأزمان، فيشعرنا من خلال وصفه لها كأنه عاش تلك العصور وخاض تلك الأحوال، وهو ما ندركه اليوم من تحقق لنبوءاته وشروحاته فهي خير شاهد ودليل يبهر بها عقول السائلين والسامعين أينما كانوا بالخصوص عندما يخبر عن مغيبات تخص الأديان، والشرائع السماوية.

وعلمه بالمستقبل وبما سيأتي فقد قال (ع): (ولولا آية في كتاب الله لأخبرتكم بما يكون إلى يوم القيامة)، وقال: (سلوني قبل أن تفقدوني، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لو سألتموني عن آية آية، لأخبرتكم بوقت نزولها وفي من نزلت، وأنبأتكم بناسخها من منسوخها، وخاصها من عامها، ومحكمها من متشابهها، ومكيها من مدنيها، والله ما فئة تضل أو تهدى إلا وأنا أعرف قائدها وسائقها وناعقها إلى يوم القيامة)[10].

وإعجازه في نهج البلاغة كشف فيه عن فوقيته وأقواله فيه رشحة من رشحات علمه، ونفحة من بيانه، وبه كفاية الدلالة أنه لا يجارى، يعجز عن مثله الند والنظير، وعن إدراكه الأعاظم من علماء وحكماء وفلاسفة.

ولو يمعن المتدبّر في العهد الذي كتبه الإمام علي (ع) لمالك الأشتر لعرف مبلغ علم الإمام (ع)، وأنه كم رسم فيه منهجاً متكاملاً في سياسات الحكومات والدول، ومهما تقادمت الأيام نعود إليه بالشوق والحنين إلى سحر بيانه، وإعجاز أحكامه.

وعلي (ع) من الراسخين في العلم، كما قال الإمام الصادق (ع): (نحن الراسخون في العلم ونحن نعلم تأويله)[11]، فالاستغناء عن علم علي وأهل بيته (ع) يعني الاستغناء عن هدى النجباء إلى الضّلال والمنحرفين.

وفي هذا قال أبو عبد الله (ع): (ورب الكعبة ورب البنية - ثلاث مرات - لو كنت بين موسى والخضر لأخبرتهما أني أعلم منهما ولأنبأتهما بما ليس في أيديهما، لأن موسى والخضر عليهما السلام أعطيا علم ما كان ولم يعطيا علم ما يكون وما هو كائن حتى تقوم الساعة وقد ورثناه من رسول الله صلى الله عليه وآله وراثة)[12]، ومن طبيعة هذا العلم مروره من جدهم الولي الكوني علي بن أبي طالب (ع).

ومشاهد منه (ع) في حكم الخلفاء كانوا يرجعون إليه في أصعب المسائل وأحلك الظروف، وهو لا يرجع إلى أحد، وشهدوا أنهم لا يملكون العلم كعلمه، ونطق الفضل لعلي (ع) بلسان عمر بن الخطاب: (لولا علي لهلك عمر)[13]، وقال: (لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن)[14]، وقال: (اللهم لا تنزل بي شديدة إلا وأبو الحسن إلى جنبي)[15].

ورجوع القوم إليه في كلّ ملماتهم فرض نفسه ومكانته العلمية عليهم، وعلى مجتمع المسلمين برمته، فشهرته شقّت طريقها إلى السامعين لتحتل الصدارة في عقولهم حتى اعتبره أهل المعارف مصحح الفكر العالمي، وهذه بوادر استحقاقاته للإمرة والولاية، وبهذا قال الإمام الرضا (ع): (إن العبد إذا اختاره الله عز وجل لأمور عباده شرح صدره لذلك، وأودع قلبه ينابيع الحكمة، وألهمه العلم إلهاما، فلم يعي بعده بجواب ولا يحير فيه عن الصواب)[16].

فمهما جهد جبابرة التأريخ لا يمكنهم إخفاء إشراقاته (ع)، ولا يستطيع أعداؤه حجبها مهما راكموا عليه من باطلهم، فالأسف أن يوضع تحت أمرة من ينتصح له بشهادة قوله تعالى: (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون)[17].

وقد قال عليه السلام فيمن يجلس إلى الناس حاكماً وهو جاهل: (فإن نزلتْ به إحدى المبهمات، هيأ لها حشواً رثاً من رأيه، ثم قطع به، فهو من لبس الشبهات في مثل نسيج العنكبوت، لا يدرى أصاب أم أخطأ، فإن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ، وإن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب)[18].

من هنا خرجت الدولة الإسلامية في مفهومها إلى مسمى آخر عندما لم يحمل خليفة المسلمين مقوّمات علم الدين والدنيا، إذ لا ريب سيعطل فيها الكثير من مفاهيم وأحكام القرآن والسنة، فالإنسان القشري لا يدرك إلا ظواهر الدين، أما عمقه وأسراره تكون عصيّة إلا على ذوي البصائر الراسخين في العلم، فحقيقة الحكمة لا تُنال إلا بعطاء رباني يفيض عليه الله تعالى من لدنه علماً ومعرفة وهو قوله تعالى: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم)[19].    

إن الذي حصل بعد رحيل النبي (ص) ممن تصدى للحكومة كان يدرك أن مستوياته العلمية والأخلاقية لا تؤهله إلى اعتلاء منصب الخلافة، لذا كانت مخاطرة من الإدارة السياسية آنذاك على حساب مستقبل الإسلام والمسلمين، لأن للعلم والحكمة دوراً مهماً في قضايا السياسة، ولهما أبعاد في تفاصيل قيادة القائد العام للدولة الإسلامية، فالخليفة، ورئيس الدولة، وقائد الأمة الذي لا يحمل علماً كعلم النبوة لا يستطيع حمل الناس على واجباتهم الدينية والدنيوية.

وطالما كان الإمام علي (ع) مراعياً لهذا الجانب وإن كان خارج الحكومة، إذ إنه يرى أن من واجباته الفتوى والوعظ والإرشاد، فالمسؤولية فرضت إعطاء الأمة من علومه التي هي من تدابير الله عز وجل أُعطيت له لحل مشاكلهم وإزالة المعوقات والهموم عنهم، وتحقيق أهداف الهداية والاستقامة فلا بأس عند توفر إحداهما أن يكون ساعياً لتحقيق المراد الإلهي.

نعم، إن الإسلام بحاجة إلى مثل علم الإمام علي (ع) ليواجه الجهل كله والانحراف كله، لأن من يستلم السلطة يكون دوره في المجتمع مؤثراً أكثر من تأثير الأب على أسرته، من هنا لو كان لديه مسألة واحدة يجهلها فإنه يصبح عبءً  ويجر وبالاً على المسلمين، ويكون معنياً بخراب العقيدة وفساد نظام الحكم، فقد يضع للأجيال معلومات خاطئة يظلم فيها نفسه وغيره، ولا يعلم الناس أنها مزورة ويظنّون أن ما في أيديهم العقائد الحقة.

وبهذا الصدد روي عن ابن عباس قوله: إني سمعت رسول الله (ص) يقول: (أعطاني الله خمساً وأعطى علياً خمساً، أعطاني جوامع الكلم وأعطى علياً جوامع العلم، وجعلني نبياً وجعل علياً وصياً، وأعطاني الكوثر وأعطى علياً السلسبيل، وأعطاني الوحي وأعطى علياً الإلهام، وأسرى بي إليه وفتح له أبواب السماء حتى رأى ما رأيت ونظر إلى ما نظرت إليه، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: يا ابن عباس من خالف علياً فلا تكونن له ظهيراً ولا ولياً فوالذي بعثني بالحق نبيا ما يخالفه أحد إلا غير الله ما به من نعمة، وشوه خلقه قبل إدخاله النار، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: يا ابن عباس لا تشك في علي فإن الشك فيه كفر يخرج عن الإيمان ويوجب الخلود في النار)[20].

ومن روائع ما اتصف به أمير المؤمنين (ع) صفة (الشجاعة)، وشجاعته شهد التأريخ فيها أنه ما قام الإسلام إلا بسيف علي (ع) ومال خديجة (رض)، وأن بطولاته كانت لحماية الدين والدفاع عن الدعوة حتى قويت بها شوكة المسلمين، وشعروا بقوة وهو معهم، والنبي (ص) كان يقوى كما كان الإسلام يقوى به، وكثيراً ما كان يُسمع صوت النبي (ص) في بعض المعارك أدركني يا علي عن يميني، وعن شمالي.

وكان من جرأته في هجرته من مكة إلى المدينة تحدى قريشاً وهي في قمة جبروتها، وقد مرغ أنوفهم بالذل والعار، عندما هاجر نهاراً جهاراً يرحل أمامهم مصطحباً رحل رسول الله (ص) ونساءه، والمسلمون آنذاك يهاجرون سراً خوفاً من بطش المشركين.

واشتهر عنه (ع) أن أحداً من الأبطال لم ينهض له في ميدان، ولا يهاب صنديداً، وإنه ليأنف من القتال إلا إذا حمل عليه حملاً.

وفي غزوة بدر قتل وحده (ع) نصف قتلى المشركين، وفي أحد كان يجندل الأبطال في لحظات حاسمة، بعد استشهاد حمزة ومصعب بن عمير، ولم يبق مع النبي (ص) إلا علي (ع)، فسجّل له التأريخ موقفاً فريداً إذ كانت الراية بيد والسيف بيد، وهو يصد الكتائب ويرد الهجمات عن النبي (ص)، وكأنه جيش بكامله، عندها نادى جبرائيل (ع) من بين السماء والأرض: (لا فتى إلا علي لا سيف إلا ذو الفقار)[21]، وقال: هذه هي المواساة، وعلى إثر ذلك قال رسول الله (ص): (إنه مني وأنا منه)، فقال جبرائيل: (وأنا منكما يا رسول الله)[22].

ويوم الأحزاب اتضح وجوم المسلمين وخوفهم في قوله تعالى: (وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر)[23]، عندما عبر قائد جيش المشركين (عمرو بن ودّ) الخندق الذي حفره المسلمون ووقف إزاء جيش المسلمين، وأخذ يستهين بالجنة التي بها يوعدون، فلم يبرز إليه أحد، وبقي طويلاً يهزأ بإبطائهم عن منازلته، فلم يجبه إلا علي بن أبي طالب (ع).

فالحمد لله، ومن أفضل النعم أن جعلنا الله تعالى من شيعته وهدانا به للإيمان، الذي قاله رسول الله (ص) عندما برز علي (ع) إلى عمر بن عبد ود: (برز الإيمان كله إلى الشرك كله)[24]، وقال تعالى فيه: (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين)[25]،.

نعم (إن مبارزة علي عليه السلام يوم الخندق أفضل من أعمال أمتي إلى يوم القيامة)[26]، هذا ما قاله الرسول (ص) في هذه المعركة التي كتب الله النصر للمسلمين على يد علي بن أبي طالب (ع)، إذ قتل عدو الله الذي أرهبهم وأعاد الثقة للمسلمين بنفوسهم، والنبي (ص) كان يعوّل على هذا الانتصار بنجاة الرسالة.

وفي معركة خيبر أُرعب بعض الصحابة عندما أرسلهم النبي (ص) لفتح حصن اليهود، فرجعوا واجمين من شدة بأسهم، فانتدب إليهم رسول الله (ص) علياً (ع) وقال: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه)[27]، وفعلاً ذهب إليهم الإمام علي (ع) وانتصر عليهم وقتل قائدهم (مرحباً) وقلع باب حصنهم وجعله جسراً على الخندق ليعبر إليهم المسلمون، وعند عودته فرح به رسول الله (ص) وبنصره فرحاً شديداً، وقد ذكر ابن أبي الحديد ذلك بقوله[28]:

يَا قَالِعَ الْبابِ الَّذِي عَنْ هَزِّهِ      عَجَزَتْ أكُفٌّ أرْبَعُونَ وَأرْبَعُ

وفي معركة حنين حين اُعجب المسلمون بكثرتهم فتخاذلوا إذ لم يثبت مع النبي (ص) إلا نفر يسير، ووقف علي (ع) كالطود الشامخ يجندل الأبطال، وكل من يقترب من النبي (ص)، وقتل رجل هوازن الشجاع حامل رايتهم، وبقتله دبّ الذعر في نفوس المشركين، ودبّ الحماس في نفوس المسلمين وكتب الله النصر لهم[29].

إذن السر في شجاعة الإمام علي (ع) حبه لله ولرسوله الذين جعلا منه شعلة إخلاص، وعمود حديد يقارع أعداءهما بكل ما أوتي من قوة، فمثلاً عندما قلع باب خيبر قال: (قلعتها بقوة ربانية)، يريد إثارة انتباه القوم إلى قدرات الإمامة التي فيه.