العربية
100%
الحج في نهج البلاغة

العتبة العلوية المقدسة 

سلسلة في رحاب نهج البلاغة (12) 

تأليف الشيخ فارس حسون 

اعداد مكتبة الروضة الحيدرية 

 

مقدمة المكتبة

قال تعالى في محكم كتابه الكريم: «ولله على النّاس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً»([1])، تدلّ الآية على وجوب الحج مع توفّر الشرائط المطلوبة، ثم بعد حصول الشرائط لابدّ وأن يكون العمل خالصاً لله تعالى لا يشوبه شيء، كما قال تعالى: «وأتمّوا الحجّ والعمرة لله»([2])، ثم تُبيّن سائر الآيات وكذلك الروايات كيفية أداء الحج ومناسكه.

ولصعوبة الحج وما يكتنفه من مشاق ومصاعب، افترضه الله تعالى مرة واحدة في العمر، وجعل في تكراره الفضل الكثير، حتى قال أميرالمؤمنين (ع): «الحج جهاد كل ضعيف»([3])، وقال (ع): «إنّ أفضل ما توسّل به المتوسّلون إلى الله سبحانه... حجّ البيت واعتماره فإنّهما ينفيان الفقر ويرحضان الذّنب»([4]) وفي نص آخر يقول (ع): «الله الله في بيت ربّكم لا تخلوه ما بقيتم فإنّه إن ترك لم تناظروا»([5]).

ثم انّ أميرالمؤمنين (ع) يشرح بعض مصاعب الحج، وانّ الله تعالى اختبر الأولين والآخرين به ويقول: «ألا ترون أنّ الله سبحانه اختبر الأوّلين من لدن آدم (ع) إلى الآخرين من هذا العالم بأحجارٍ لاتضرّ ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع، فجعلها بيته الحرام الّذي جعله للنّاس قياماً، ثمّ وضعه بأوعر بقاع الأرض حجراً، وأقلّ نتائق الدّنيا مدراً، وأضيق بطون الأودية قطراً، بين جبالٍ خشنةٍ ورمالٍ دمثةٍ وعيونٍ وشلةٍ وقرًى منقطعةٍ، لا يزكو بها خفٌّ ولا حافرٌ ولا ظلفٌ.

ثمّ أمر آدم (ع) وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه فصار مثابةً لمنتجع أسفارهم، وغايةً لملقى رحالهم تهوي إليه ثمار الأفئدة من مفاوز قفارٍ سحيقةٍ ومهاوي فجاجٍ عميقةٍ، وجزائر بحارٍ منقطعةٍ، حتّى يهزّوا مناكبهم ذللاً يهلّلون لله حوله ويرملون على أقدامهم شعثاً غبراً له، قد نبذوا السّرابيل وراء ظهورهم وشوّهوا بإعفاء الشّعور محاسن خلقهم، ابتلاءً عظيماً وامتحاناً شديداً واختباراً مبيناً وتمحيصاً بليغاً، جعله الله سبباً لرحمته ووصلةً إلى جنّته.

ولو أراد سبحانه أن يضع بيته الحرام ومشاعره العظام بين جنّاتٍ وأنهارٍ وسهلٍ وقرارٍ، جمّ الأشجار داني الثّمار ملتفّ البنى متّصل القرى، بين برّةٍ سمراء وروضةٍ خضراء وأريافٍ محدقةٍ وعراصٍ مغدقةٍ ورياضٍ ناضرةٍ وطرقٍ عامرةٍ، لكان قد صغر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء، ولو كان الأساس المحمول عليها والأحجار المرفوع بها بين زمرّدةٍ خضراء وياقوتةٍ حمراء ونورٍ وضياءٍ لخفّف ذلك مصارعة الشّكّ في الصّدور، ولوضع مجاهدة إبليس عن القلوب، ولنفى معتلج الرّيب من النّاس، ولكنّ الله يختبر عباده بأنواع الشّدائد ويتعبّدهم بأنواع المجاهد ويبتليهم بضروب المكاره إخراجاً للتّكبّر من قلوبهم وإسكاناً للتّذلّل في نفوسهم، وليجعل ذلك أبواباً فتحاً إلى فضله وأسباباً ذللاً لعفوه»([6]).

يشير أميرالمؤمنين (ع) في هذا النص الشريف إلى عدّة نقاط نوجزها فيما يلي:

1ـ انّ بيت الله الحرام كان موجوداً منذ زمن آدم (ع)، وجعله الله تعالى موضعاً لاختبار عباده، يدلّ عليه قوله تعالى عن لسان إبراهيم(ع): «ربّنا إنّي أسكنت من ذرّيّتي بوادٍ غير ذي زرعٍ عند بيتك الـمحرّم»([7])، حيث تدلّ على وجود البيت آنذاك، وقوله تعالى أيضاً: «إنّ أوّل بيتٍ وضع للنّاس للّذي ببكّة مباركاً»([8])، وهناك شواهد أخرى وردت في كتب السيرة والتاريخ تؤيّد هذا([9]).

ثم انّ هذا البيت كان معظّماً ومحترماً عند جميع الأمّم، قال العلامة الطباطبائي في تفسيره: «كانت الكعبة مقدّسة معظّمة عند الأمم المختلفة، فكانت الهنود يعظمونها ويقولون: انّ روح «سيفا» وهو الاقنوم الثالث عندهم حلّت في الحجر الأسود حين زار مع زوجته بلاد الحجاز. وكانت الصابئة من الفرس والكلدانيين يعدونها أحد البيوت السبعة المعظمة، وربما قيل انّه بيت زحل لقدم عهده وطول بقائه.

وكانت الفرس يحترمون الكعبة أيضاً، زاعمين انّ روح هرمز حلّت فيها، وربما حجّوا إليها زائرين، وكانت اليهود يعظّمونها ويعبدون الله فيها على دين إبراهيم، وكان بها صور وتماثيل منها تمثال إبراهيم وإسماعيل وبأيديهما الأزلام، ومنها صورتا العذراء والمسيح، ويشهد ذلك على تعظيم النصارى لأمرها أيضاً كاليهود.

وكانت العرب أيضاً تعظّمها كل التعظيم وتعدّها بيتاً لله تعالى، وكانوا يحجّون إليها من كل جهة، وهم يعدّون البيت بناء لإبراهيم، والحج من دينه الباقي بينهم بالتوارث»([10]).

وهذا مفاد قوله تعالى: «جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للنّاس»([11]).

2ـ انّ الله تعالى تتميماً للاختبار والابتلاء جعل البيت في أوعر وأصعب بقاع الأرض، فهي غير صالحة للزرع وغير صالحة أيضاً لحياة الحيوان فيها، فلا يزكوا بها خفّ ولا حافر ولا ظلف، وهذا مفاد قوله تعالى عن لسان إبراهيم (ع): «ربّنا إنّي أسكنت من ذرّيّتي بوادٍ غير ذي زرعٍ»([12]).

3ـ من خصائص وأسرار البيت ـ رغم ما يكتنفه من صعوبات طبيعية مرّت الإشارة إليها وصعوبات المناسك أيضاً ـ أنّه «تهوي إليه ثمار الأفئدة» كما ورد في دعاء إبراهيم (ع): «فاجعل أفئدةً من النّاس تهوي إليهم»([13]).

وقد ذكر أميرالمؤمنين (ع) هذا الشوق في تمثيل رائع حيث قال: «ويألهون إليه ولوه الحمام»([14]) أي يشتدّ شوقهم إليه حتى تكاد تذهب عقولهم من شدّة الاشتياق، كاشتياق الحمام إلى وكرها.

4ـ «جعله الله سبباً لرحمته ووصلةً إلى جنّته» يشير (ع) إلى انّ الغفران والرحمة الإلهية من ثمار الحج، وهذا ما ورد التأكيد عليه في روايات كثيرة، فعن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: «عليكم بحج هذا البيت فأدمنوه، فإنّ في إدمانكم الحج دفع مكاره الدنيا عنكم، وأهوال يوم القيامة»([15]).

وعن الإمام السجاد (ع) أنّه قال: «حق الحج أن تعلم أنّه وفادة إلى ربك، وفرار إليه من ذنوبك، وبه قبول توبتك، وقضاء الفرض الذي أوجبه الله عليك»([16]).

وعن الإمام الصادق (ع) أيضاً في ثواب من حج أربع حجج: «من حجّ أربع حجج لم تصبه ضغطة القبر أبداً، وإذا مات صوّر الله الحج الذي حج في صورة حسنة من أحسن ما يكون من الصور بين عينيه تصلي في جوف قبره حتى يبعثه الله من قبره، ويكون ثواب تلك الصلاة له، واعلم انّ صلاة من تلك الصلاة تعدل ألف ركعة من صلاة الآدميين»([17]).

5ـ انّ الحكمة في جعل البيت مكتنفاً بهذه الشدائد والمصاعب، اختبار العباد وإثابة المجيب، زائداً إخراج التكبر من القلوب بالتعبد لأداء المناسك الشاقّة من الإحرام والالتزام بتروكاته إلى السعي والتقصير وأيام عرفات ومنى وغيرها من المناسك، وإلّا فإنّ الله تعالى كان قادراً على رفع جميع هذه المشاق بأن يجعل البيت في أفضل أماكن الأرض ماءاً وكلاءاً.

نعم هذا هو الحج، وهذه ثماره ونتائجه، ففي الدنيا الرزق والشوق، وفي القبر الأمن والأمان، وفي الآخرة المغفرة والرضوان.

فمعكم في حلقة أخرى من «سلسلة في رحاب نهج البلاغة» تحت عنوان «الحج في نهج البلاغة» بقلم المحقق البحّاثة المرحوم الشيخ فارس الحسون (تبريزيان) حيث شرح ما يتعلّق بالحج من الخطبة الأولى، وسبق أن نشر في مجلة(ميقات الحج) العدد الرابع عام1416هـ، آثرنا نشره ضمن هذه السلسلة تتميماً للفائدة، ووفاء لحق المؤلّف حيث كان مهتماً بنشر تراث أهل البيت :، وكان المؤسس لمكتبات العتبات في العراق الجديد، فرحمة الله عليه رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جنته بمنّه وكرمه.

 

([1]) آل عمران: 97.

([2]) البقرة: 196.

([3]) نهج البلاغة، قصار الحكم: 129.

([4]) نهج البلاغة، الخطبة: 109.

([5]) نهج البلاغة، الكتاب: 47.

([6]) نهج البلاغة، الخطبة: 192.

([7]) إبراهيم: 37.

([8]) آل عمران: 96.

([9]) راجع شرح النهج لابن أبي الحديد 13: 161.

([10]) الميزان للطباطبائي 3: 361.

([11]) المائدة: 97.

([12]) إبراهيم: 37.

([13]) إبراهيم: 37.

([14]) نهج البلاغة: الخطبة: 1.

([15]) أمالي الطوسي: 668.

([16]) الخصال للشيخ الصدوق: 566.

([17]) الخصال للشيخ الصدوق: 215.

------------------------------------------

 

مقدمة المؤلف

الكلام كلما حسن نظمه، وانتظمت مفرداته بأحسن نظام وتحلّى بالفصاحة، وتزيّن بالبلاغة، يكون للقبول أقرب وبالنفوس أوقف خصوصاً إذا جمع بين البلاغة والفصاحة، وبين المعنى العميق الشامل لأنواع المعلومات ودقائق المفاهيم.

ومن هذا المنطلق جعل الله ـ سبحانه ـ معجزة النبي (ص) القرآن المجيد، ببلاغته وحسن عباراته، وبما فيه من الأحكام والإنذار والإبلاغ وشتّى العلوم، حتى تحدّى به العرب ـ الذين كانوا أهل البلاغة والفصاحة ـ أن يأتوا بآية من مثله.

وبعد وفاة النبي الأكرم (ص)، خلّف الثقلين: القرآن، والعترة، وتمثّل ثقل العترة بأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع)، وانتقلت إليه مواريث الأنبياء والأوصياء، وورث الفصاحة والبلاغة المحمدية، شرع ـ سلام الله عليه ـ بهداية الأمّة، بخطبه وحكمه ومواعظه ورسائله الفصيحة الشاملة لأدقّ المعاني وأمتنها، حتّى ضاهت بلاغته وفصاحته بلاغة وفصاحة العرب، وصار أمير الفصاحة والبلاغة، كما كان أمير الشجاعة والعلم والصبر والحزم والعبادة.

وبلغت خطبه (ع) إلى حدّ من البلاغة وحسن النظم حتى قيل: إنّ كلامه (ع) فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق.

وقيّض الله ـ سبحانه ـ الكثير من العلماء ممّن جمع كلامه وخطبه ورسائله ومواعظه (ع)، ودوّنها في كتب مستقلة، منهم: الشريف الرضي ـ رضوان الله عليه ـ ، حيث كتب كتابه نهج البلاغة، اختار فيه من خطب أمير المؤمنين (ع) وكلامه وحكمه ورسائله، حتى أصبح نهج البلاغة ولا يكاد يجهله أحد، اختار فيه من كلامه (ع) بما له ربط: بالتوحيد، والعدل، والنبوّة، والإمامة، والمعاد، ووصف القرآن والنبيّ وأهل البيت : والأحكام الشرعية، والمسائل الأخلاقية وصفات المتقين ووصف المنافقين والمنحرفين، وفنون الحرب وعجيب خلقة بعض الحيوانات.

وانتخبت من كلامه (ع) في نهج البلاغة ما له صلة بالحج وبيت الله الحرام، وضبطته بالاعتماد على أقدم نسختين لنهج البلاغة وسائر النسخ الأخرى، وشرحت كلامه (ع) شرحاً شافياً، مستعيناً بالشروح المعتمدة لنهج البلاغة.

الفهرس 

مقدمة المكتبة ........ 5

تمهيد ........ 13

نص الخطبة ........ 15

اختلاف النسخ ........ 17

رواية الخطبة ........ 18

شرح الخطبة ........ 20

قوله (ع) : «الّذي جعله قبلةً للأنام» ........ 21

قوله (ع) : يردونه ورود الأنعام ........ 23

قوله (ع) : «ويألهون إليه ولوه الـحمام» ........ 24

قوله (ع) : جعله سبحانه علامةً لتواضعهم لعظمته ........ 27

قوله (ع) : «وإذعانهم لعزّته» ........ 27

قوله (ع) : واختار من خلقه سمّاعاً أجابوا إليه دعوته ........ 29

قوله (ع) : «وصدّقوا كلمته» ........ 29

قوله (ع) : «ووقفوا مواقف أنبيائه» ........ 30

قوله (ع) : «وتشبّهوا بملائكته الـمطيفين بعرشه» ........32

قوله (ع) : يحرزون الارباح في متجر عبادته ........ 34

قوله (ع) : «ويتبادرون عنده موعد مغفرته» ........ 35

قوله (ع) : «جعله سبحانه للإسلام علماً» ........ 36

قوله (ع) : «وللعائذين حرماً» ........ 36

قوله (ع) : «فرض حجّه» ........ 37

قوله (ع) : «وأوجب حقّه» ........ 37

قوله (ع) : «وكتب عليكم وفادته» ........ 38

قوله (ع) : فقال سبحانه: «... ولله على النّاس حجّ البيت ...» ...... 38

مصادر البحث ........ 40

فهرس الكتاب ........ 43